المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة الحج: [الآية 25]
![]() |
![]() |
![]() |
سورة الحج | ||
![]() |
![]() |
![]() |
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
«وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ» الهاء من جهاده تعود على اللّه ، أي يتصفون بالجهاد ، أي في حال جهاده صفة الحق ، أي لا يرون مجاهدا إلا اللّه ، وذلك لأن الجهاد وقع فيه ، ولا يعلم أحد كيف الجهاد في اللّه إلا اللّه ، فإذا ردوا ذلك إلى اللّه وهو قوله : «حَقَّ جِهادِهِ» فنسب الجهاد إليه بإضافة الضمير ، فكان المجاهد لا هم ، أي لا يرون لأنفسهم عملا وإن كانوا محل ظهور الآثار . قال اللّه لموسى عليه السلام يا موسى اشكرني حق الشكر ، قال يا رب ومن يقدر على ذلك ، قال إذا رأيت النعمة مني فقد شكرتني حق الشكر - أخرجه
ابن ماجة في سننه - قال تعالى : «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ» فكل عمل أضفته إلى اللّه عن ذوق ومشاهدة ، لا عن اعتقاد وحال بل عن مقام وعلم صحيح فقد أعطيت ذلك العمل حقه حيث رأيته ممن هو له «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» تأمل هذه الآية
فإن لها وجهين كبيرين قريبين خلاف ما لها من الوجوه ، أي خففت عنكم في الحكم ، وما أنزلت عليكم ما يحرجكم ،
وينظر إلى هذا قوله تعالى : «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها»
وقوله تعالى : «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها»
وقوله عليه السلام : [ بعثت بالحنيفية السمحاء ]
وقوله عليه السلام : [ إن الدين يسر ]
فلا يكون الحق يراعي اليسر في الدين ورفع الحرج ويفتي المفتي بخلاف ذلك ، فإن النفوس أبت أن تقف عند الأحكام المنصوص عليها ، فأثبتت لها عللا وجعلتها مقصودة للشارع وطردتها ، وألحقت المسكوت عنه في الحكم بالمنطوق به بعلة جامعة اقتضاها نظر الجاعل المجتهد ، ولو لم يفعل لبقي المسكوت عنه على أصله من الإباحة والعافية ، فكثرت الأحكام بالتعليل وطرد العلة والقياس والرأي والاستحسان ،
وما كان ربك نسيا ، ولكن بحمد اللّه جعل اللّه في ذلك رحمة أخرى لنا ، لولا أن الفقهاء حجرت هذه الرحمة على العامة ، بإلزامهم إياها مذهب شخص معين لم يعينه اللّه ولا رسوله ، ولا دل عليه ظاهر كتاب ولا سنة صحيحة ولا ضعيفة ،
ومنعوه أن يطلب رخصة في نازلته في مذهب عالم آخر اقتضاه اجتهاده ، وشددوا في ذلك وقالوا هذا يفضي إلى التلاعب بالدين ، وتخيلوا أن ذلك دين ، وقد قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : [ إن اللّه تصدق عليكم فاقبلوا صدقته ]
فالرخص مما تصدق اللّه بها على عباده ، وقد أجمعنا على تقرير حكم المجتهد وعلى تقليد العامي له في ذلك الحكم لأنه عنده عن دليل شرعي ، سواء كان صاحب قياس أو غير قائل به ، فتلك الرخصة التي رآها الشافعي في مذهبه على ما اقتضاه دليله ،
وقد قررها الشرع فيمنع المفتي من المالكية المالكي المذهب أن يأخذ برخصة الشافعي التي تعبده بها الشارع –
وإنما أضفناها إلى الشارع لأن الشرع قررها - بمنعه مما يقتضيه الدليل في الأخذ به بأمر لا يقتضيه الدليل الذي لا أصل له ، وهو ربط الرجل نفسه بمذهب خاص لا يعدل عنه إلى غيره ،
ويحجر عليه ما لم يحجر الشرع عليه ، وهذا من أعظم الطوام وأشق الكلف على عباد اللّه ،
فالذي وسع الشرع بتقرير حكم المجتهدين في هذه الأمة ضيقه عوام الفقهاء ،
وأما الأئمة مثل أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل والشافعي فحاشاهم من هذا ،
ما فعله واحد منهم قط ، ولا نقل عنهم أنهم قالوا لأحد اقتصر علينا ، ولا قلدني فيما أفتيك به ، بل المنقول عنهم خلاف هذا رضي اللّه عنهم ،
والوجه الآخر في قوله تعالى:" وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ " رفع الحديث من النفس عند توجه الحكم بما لا يوافق الغرض وتمجه النفس ، فكأنه خاطب المؤمنين ومن وجد الحرج ليس بمؤمن ،
وهذا صعب جدا ، فإذا قال تعالى : «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» فللإنسان إذا توجه عليه حكم بفتيا عالم من العلماء تصعب عليه أن يبحث عند العلماء المجتهدين ،
هل له في تلك النازلة حكم من الشرع أهون من ذلك ، فإن وجده عمل به وارتفع الحرج ، وإن وجد الإجماع في تلك النازلة على ذلك الحكم الذي صعب عليه ، قبله إن كان مؤمنا طيب النفس ، وعادت حزونته سهولة ،
ودفعه له قبولا لما حكم عليه به اللّه ، فيصح بذلك عنده إيمانه ، وهي علامة له على ثبوت الإيمان عنده ، ولما كان هذا المقام شامخا عسيرا على النفوس نيله ،
أقسم بنفسه جل وتعالى عليه ، ولما لم يكن المحكوم عليهم يسمعون ذلك من اللّه وإنما حكم عليهم بذلك رسول اللّه الثابت صدقه ، النائب عن اللّه وخليفته في الأرض ،
لذلك أضاف الاسم إليه عناية به وشرفا له صلّى اللّه عليه وسلم ،
فقال : «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً»
«مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ» ،
فإبراهيم عليه السلام هو أبونا في الإسلام وهو الذي سمانا مسلمين «وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ» فنشهد نحن على الأمم بما أوحى اللّه تعالى به إلينا من قصص أنبيائه مع أممهم ، فالشهادة بالخبر الصادق كالشهادة بالعيان الذي لا ريب فيه ، مثل شهادة خزيمة ، بل الشهادة بالوحي أتم من الشهادة بالعين ، لأن خزيمة لو شهد شهادة عين لم تقم شهادته مقام اثنين ، «فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ» الاعتصام باللّه هو قوله صلّى اللّه عليه وسلم في الاستعاذة «وأعوذ بك منك»
فإنه لا يقاومه شيء من خلقه ، فلا يستعاذ به إلا منه «هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ".
(23) سورة المؤمنون مكيّة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
------------
(78) الفتوحات ج 2 / 148 - كتاب القسم الإلهي - الفتوحات ج 1 / 620 - ج 2 / 685 - كتاب القسم الإلهي - الفتوحات ج 3 / 50 - ج 4 / 85تفسير ابن كثير:
يقول تعالى منكرا على الكفار في صدهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام ، وقضاء مناسكهم فيه ، ودعواهم أنهم أولياؤه : ( وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون ) [ الأنفال : 34 ] .
وفي هذه الآية دليل [ على ] أنها مدنية ، كما قال في سورة " البقرة " : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله ) [ البقرة : 217 ] ، وقال : هاهنا : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ) أي : ومن صفتهم مع كفرهم أنهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ، أي : ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر ، وهذا التركيب في هذه الآية كقوله تعالى : ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) [ الرعد : 28 ] أي : ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله .
وقوله : ( الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ) [ أي : يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وقد جعله الله شرعا سواء ، لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه ، ( سواء العاكف فيه والباد ) ] ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : ( سواء العاكف فيه والباد ) قال : ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام .
وقال مجاهد [ في قوله ] : ( سواء العاكف فيه والباد ) : أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل . وكذا قال أبو صالح ، وعبد الرحمن بن سابط ، وعبد الرحمن بن زيد [ بن أسلم ] .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : سواء فيه أهله وغير أهله .
وهذه المسألة اختلف فيها الشافعي وإسحاق ابن راهويه بمسجد الخيف ، وأحمد بن حنبل حاضر أيضا ، فذهب الشافعي ، رحمه الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر ، واحتج بحديث الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة بن زيد قال : قلت : يا رسول الله ، أتنزل غدا في دارك بمكة؟ فقال : " وهل ترك لنا عقيل من رباع " . ثم قال : " لا يرث الكافر المسلم ، ولا المسلم الكافر " . وهذا الحديث مخرج في الصحيحين [ وبما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة ، فجعلها سجنا بأربعة آلاف درهم . وبه قال طاوس ، وعمرو بن دينار .
وذهب إسحاق ابن راهويه إلى أنها تورث ولا تؤجر . وهو مذهب طائفة من السلف ، ونص عليه مجاهد وعطاء ، واحتج إسحاق ابن راهويه بما رواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن عيسى بن يونس ، عن عمر بن سعيد بن أبي حسين ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن علقمة بن نضلة قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، وما تدعى رباع مكة إلا ] السوائب ، من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن
وقال عبد الرزاق عن ابن مجاهد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو أنه قال : لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها .
وقال أيضا عن ابن جريج : كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم ، وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهى أن تبوب دور مكة; لأن ينزل الحاج في عرصاتها ، فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو ، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك ، فقال : أنظرني يا أمير المؤمنين ، إني كنت امرأ تاجرا ، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري قال : فذلك إذا .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن منصور ، عن مجاهد; أن عمر بن الخطاب قال : يا أهل مكة ، لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء .
قال : وأخبرنا معمر ، عمن سمع عطاء يقول [ في قوله ] : ( سواء العاكف فيه والباد ) ، قال : ينزلون حيث شاءوا .
وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نجيح ، عن عبد الله بن عمرو موقوفا من أكل كراء بيوت مكة أكل نارا .
" وتوسط الإمام أحمد [ فيما نقله صالح ابنه ] فقال : تملك وتورث ولا تؤجر ، جمعا بين الأدلة ، والله أعلم .
وقوله : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) قال بعض المفسرين من أهل العربية : الباء هاهنا زائدة ، كقوله : ( تنبت بالدهن ) [ المؤمنون : 20 ] أي : تنبت الدهن ، وكذا قوله : ( ومن يرد فيه بإلحاد ) تقديره إلحادا ، وكما قال الأعشى :
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا بين المراجل ، والصريح الأجرد
وقال الآخر :
بواد يمان ينبت الشث صدره وأسفله بالمرخ والشبهان
والأجود أنه ضمن الفعل هاهنا معنى " يهم " ، ولهذا عداه بالباء ، فقال : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) أي : يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار .
وقوله : ( بظلم ) أي : عامدا قاصدا أنه ظلم ليس بمتأول ، كما قال ابن جريج ، عن ابن عباس : هو [ التعمد ] .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( بظلم ) بشرك .
وقال مجاهد : أن يعبد فيه غير الله . وكذا قال قتادة ، وغير واحد .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : ( بظلم ) هو أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك من لسان أو قتل ، فتظلم من لا يظلمك ، وتقتل من لا يقتلك ، فإذا فعل ذلك فقد وجب [ له ] العذاب الأليم .
وقال مجاهد : ( بظلم ) : يعمل فيه عملا سيئا .
وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي فيه الشر ، إذا كان عازما عليه ، وإن لم يوقعه ، كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره :
حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا شعبة ، عن السدي : أنه سمع مرة يحدث عن عبد الله - يعني ابن مسعود - في قوله : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) قال : لو أن رجلا أراد فيه بإلحاد بظلم ، وهو بعدن أبين ، أذاقه الله من العذاب الأليم .
قال شعبة : هو رفعه لنا ، وأنا لا أرفعه لكم . قال يزيد : هو قد رفعه ، ورواه أحمد ، عن يزيد بن هارون ، به .
[ قلت : هذا الإسناد ] صحيح على شرط البخاري ، ووقفه أشبه من رفعه; ولهذا صمم شعبة على وقفه من كلام ابن مسعود . وكذلك رواه أسباط ، وسفيان الثوري ، عن السدي ، عن مرة ، عن ابن مسعود موقوفا ، والله أعلم .
وقال الثوري ، عن السدي ، عن مرة ، عن عبد الله قال : ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه ، ولو أن رجلا بعدن أبين هم أن يقتل رجلا بهذا البيت ، لأذاقه الله من العذاب الأليم . وكذا قال الضحاك بن مزاحم .
وقال سفيان [ الثوري ] ، عن منصور ، عن مجاهد " إلحاد فيه " ، لا والله ، وبلى والله . وروي عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، مثله .
وقال سعيد بن جبير : شتم الخادم ظلم فما فوقه .
وقال سفيان الثوري ، عن عبد الله بن عطاء ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس في قوله : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) قال : تجارة الأمير فيه .
وعن ابن عمر : بيع الطعام [ بمكة ] إلحاد .
وقال حبيب بن أبي ثابت : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) قال : المحتكر بمكة . وكذا قال غير واحد .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري ، أنبأنا أبو عاصم ، عن جعفر بن يحيى ، عن عمه عمارة بن ثوبان ، حدثني موسى بن باذان ، عن يعلى بن أمية; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " احتكار الطعام بمكة إلحاد " .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، حدثني سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس في قول الله : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) قال : نزلت في عبد الله بن أنيس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين ، أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار ، فافتخروا في الأنساب ، فغضب عبد الله بن أنيس ، فقتل الأنصاري ، ثم ارتد عن الإسلام ، وهرب إلى مكة ، فنزلت فيه : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) يعني : من لجأ إلى الحرم بإلحاد يعني بميل عن الإسلام .
وهذه الآثار ، وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد ، ولكن هو أعم من ذلك ، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها ، ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيرا أبابيل ( ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول ) [ الفيل : 4 ، 5 ] ، أي : دمرهم وجعلهم عبرة ونكالا لكل من أراده بسوء; ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يغزو هذا البيت جيش ، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم " الحديث .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كناسة ، حدثنا إسحاق بن سعيد ، عن أبيه قال : أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير ، فقال : يا ابن الزبير ، إياك والإلحاد في حرم الله ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنه سيلحد فيه رجل من قريش ، لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت " ، فانظر لا تكن هو .
وقال أيضا [ في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص ] : حدثنا هاشم ، حدثنا إسحاق بن سعيد ، حدثنا سعيد بن عمرو قال : أتى عبد الله بن عمرو ابن الزبير ، وهو جالس في الحجر فقال : يا بن الزبير ، إياك والإلحاد في الحرم ، فإني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يحلها ويحل به رجل من قريش ، ولو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها " . قال : فانظر لا تكن هو .
ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذين الوجهين .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
يخبر تعالى عن شناعة ما عليه المشركون الكافرون بربهم، وأنهم جمعوا بين الكفر بالله ورسوله، وبين الصد عن سبيل الله ومنع الناس من الإيمان، والصد أيضا عن المسجد الحرام، الذي ليس ملكا لهم ولا لآبائهم، بل الناس فيه سواء، المقيم فيه، والطارئ إليه، بل صدوا عنه أفضل الخلق محمدا وأصحابه، والحال أن هذا المسجد الحرام، من حرمته واحترامه وعظمته، أن من يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم.
فمجرد إرادة الظلم والإلحاد في الحرم، موجب للعذاب، وإن كان غيره لا يعاقب العبد عليه إلا بعمل الظلم، فكيف بمن أتى فيه أعظم الظلم، من الكفر والشرك، والصد عن سبيله، ومنع من يريده بزيارة، فما ظنكم أن يفعل الله بهم؟"
وفي هذه الآية الكريمة، وجوب احترام الحرم، وشدة تعظيمه، والتحذير من إرادة المعاصي فيه وفعلها.
تفسير البغوي
قوله عز وجل : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ) عطف المستقبل على الماضي لأن المراد من لفظ المستقبل الماضي كما قال تعالى في موضع آخر ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ) ( النساء 167 ) ، معناه إن الذين كفروا فيما تقدم ويصدون عن سبيل الله في الحال أي وهم يصدون . ( والمسجد الحرام ) أي ويصدون عن المسجد الحرام . ( الذي جعلناه للناس ) قبلة لصلاتهم ومنسكا ومتعبدا كما قال ( وضع للناس ) ( آل عمران 96 ) . ( سواء ) قرأ حفص عن عاصم ويعقوب : " سواء " نصبا بإيقاع الجعل عليه لأن الجعل يتعدى إلى مفعولين وقيل معناه مستويا فيه ، ( العاكف فيه والباد ) وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وما بعده خبر وتمام الكلام عند قوله " للناس " وأراد بالعاكف المقيم فيه ، وبالبادي الطارئ المنتاب إليه من غيره
واختلفوا في معنى الآية فقال قوم " سواء العاكف فيه والباد " أي في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة ، وقالوا المراد منه نفس المسجد الحرام . ومعنى التسوية هو التسوية في تعظيم الكعبة في فضل الصلاة في المسجد الحرام والطواف بالبيت
وقال آخرون المراد منه جميع الحرم ومعنى التسوية أن المقيم والبادي سواء في النزول به ليس أحدهما أحق بالمنزل يكون فيه من الآخر غير أنه لا يزعج فيه أحدا إذا كان قد سبق إلى منزل وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد ، قالوا هما سواء في البيوت والمنازل .
وقال عبد الرحمن بن سابط : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم وكان عمر بن الخطاب ينهى الناس أن يغلقوا أبوابهم في الموسم وعلى هذا القول لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها ، وعلى القول الأول وهو الأقرب إلى الصواب يجوز لأن الله تعالى قال ( الذين أخرجوا من ديارهم ) ( الحج 40 ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " فنسب الدار إليه نسب ملك واشترى عمر دارا للسجن بمكة بأربعة آلاف درهم فدل على جواز بيعها وهذا قول طاوس وعمرو بن دينار ، وبه قال الشافعي .
قوله عز وجل ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) أي في المسجد الحرام بإلحاد بظلم وهو الميل إلى الظلم الباء في قوله " بإلحاد " زائدة كقوله : ( تنبت بالدهن ) ( المؤمنون 20 ) ، ومعناه من يرد فيه إلحادا بظلم قال الأعشى :
" ضمنت برزق عيالنا أرماحنا "
، أي رزق عيالنا وأنكر المبرد أن تكون الباء زائدة وقال معنى الآية من تكن إرادته فيه بأن يلحد بظلم
واختلفوا في هذا الإلحاد فقال مجاهد وقتادة : هو الشرك وعبادة غير الله
وقال قوم : هو كل شيء كان منهيا عنه من قول أو فعل حتى شتم الخادم
وقال عطاء : هو دخول الحرم غير محرم أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم من قتل صيد أو قطع شجر
وقال ابن عباس : هو أن تقتل فيه من لا يقتلك أو تظلم فيه من لا يظلمك وهذا معنى قول الضحاك .
وعن مجاهد أنه قال تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات .
وقال حبيب بن أبي ثابت : وهو احتكار الطعام بمكة .
وقال عبد الله بن مسعود في قوله ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) قال لو أن رجلا هم بخطيئة لم تكتب عليه ما لم يعملها ولو أن رجلا هم بقتل رجل بمكة وهو بعدن أبين أو ببلد آخر أذاقه الله من عذاب أليم . وقال السدي : إلا أن يتوب
وروي عن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الآخر فسئل عن ذلك فقال كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل كلا والله وبلى والله .
الإعراب:
(إِنَّ) حرف مشبه بالفعل (الَّذِينَ) اسم موصول في محل نصب اسم إن والجملة مستأنفة (كَفَرُوا) ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة والواو فاعل والجملة صلة لا محل لها (وَيَصُدُّونَ) الواو عاطفة ومضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والجملة معطوفة على كفروا (عَنْ سَبِيلِ) متعلقان بيصدون (اللَّهِ) لفظ الجلالة مضاف إليه (وَالْمَسْجِدِ) معطوف على سبيل (الْحَرامِ) صفة (الَّذِي) اسم موصول في محل جر صفة أو بدل من المسجد (جَعَلْناهُ) ماض وفاعله ومفعوله الأول والجملة صلة (لِلنَّاسِ) متعلقان بمحذوف حال (سَواءً) مفعول به ثان أو حال إذا كان الفعل غير متعد لمفعولين (الْعاكِفُ) فاعل لسواء (فِيهِ) متعلقان بالعاكف (وَالْبادِ) الواو عاطفة والباد معطوف على العاكف (وَمَنْ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ والجملة مستأنفة (يُرِدْ) مضارع فاعله مستتر (فِيهِ) متعلقان بيرد (بِإِلْحادٍ) الباء زائدة وإلحاد مجرور لفظا منصوب محلا على أنه مفعول به (بِظُلْمٍ) متعلقان بمحذوف صفة لإلحاد (نُذِقْهُ) مضارع مجزوم لأنه جواب الشرط فاعله مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به وجملتا الشرط والجواب في محل رفع خبر من (مِنْ عَذابٍ) متعلقان بنذقه (أَلِيمٍ) صفة لعذاب مجرورة مثلها