الفتوحات المكية

المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة طه: [الآية 40]

سورة طه
إِذْ تَمْشِىٓ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُۥ ۖ فَرَجَعْنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ ۚ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَٰكَ مِنَ ٱلْغَمِّ وَفَتَنَّٰكَ فُتُونًا ۚ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِىٓ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَٰمُوسَىٰ ﴿40﴾

تفسير الجلالين:

«إذ» للتعليل «تمشي أختك» مريم لتتعرف من خبرك وقد أحضروا مراضع وأنت لا تقبل ثدي واحدة منهن «فتقول هل أدلكم على من يكفله» فأجيبت فجاءت بأمه فقبل ثديها «فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها» بلقائك «ولا تحزن» حينئذ «وقتلت نفسا» هو القبطي بمصر، فاغتممت لقتله من جهة فرعون «فنجيناك من الغم وفتناك فتونا» اختبرناك بالإيقاع في غير ذلك وخلصناك منه «فلبثت سنين» عشرا «في أهل مدين» بعد مجيئك إليها من مصر عند شعيب النبي وتزوجك بابنته «ثم جئت على قدر» في علمي بالرسالة وهو أربعون سنة من عمرك «يا موسى».

تفسير الشيخ محي الدين:

وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111)

الوجوه منا المراد بها حقائقنا ، إذ وجه كل شيء ذاته ، وكل ما خلق اللّه من العالم فإنما خلقه اللّه على كماله في نفسه ، فذلك الكمال وجهه ، فالوجوه هنا أعيان الذوات وحقائق


الموجودات ، إذ وجه كل شيء حقيقته وذاته ، فعنت الوجوه أي خضعوا وذلوا ، وطلبوا الزيادة من العلم فيما لا علم لهم به منه ، وهو العلم باللّه عن طريق التجلي والذوق ، ولذلك قال : عنت أي ذلت ، فلما تجلى اسمه «الحي» حييت الموجودات «والقيوم» فقامت به الأرض والسماوات ومن فيهن من عوالم البقاء والاستحالات ، فعنت لحياته الوجوه وسجدت لقيوميته الجباه ، وأقنعت لعظمته الرؤوس وتحركت بذكره الشفاه" وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً"

[سورة طه (20) : الآيات 112 إلى 114]

وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)

[ الوحي وحيان ]

الوحي وحيان : وحي قرآن ووحي فرقان ؛ ووحي القرآن هو الأول فإن القرآن حصل عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مجملا غير مفصل الآيات والسور ، فلما أوحى اللّه إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم كان يعجل بالقرآن حين كان ينزل عليه جبريل عليه السلام بالفرقان ، قبل أن يقضى إليه وحيه ، ليعلم بالحال أن اللّه تولى تعليمه من الوجه الخاص الذي لا يشعر به الملك ، وجعل اللّه الملك النازل بالوحي صورة حجابية ، فقيل له «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ» الذي عندك فتلقيه مجملا فلا يفهم عنك «مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» فرقانا مفصلا ، فأمر صلّى اللّه عليه وسلم بالتأني عند الوحي أدبا مع المعلم الذي أتاه به من قبل ربه ، فهو صلّى اللّه عليه وسلم مصغ تابع للملك هنا ، وقد قال تعالى له فيما أوحى إليه (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) كذلك أدبا مع أستاذه جبريل[ «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» ] «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» بتفصيل ما أجملته فيّ من المعاني ، فما أشرف العلم ، فهو الصفة الشريفة التي أخبر اللّه تعالى نبيه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم وسلم بالزيادة منها ، ولم يقل ذلك في غيره من الصفات ، فإن فيه الشرف التام ، وليس في الصفات أعم منه تعلقا ، لتعلقه بالواجبات والجائزات والمستحيلات ، وغيره من الصفات ليس كذلك ، وحدّ العلم


وحقيقته المطلقة معرفة الشيء على ما هو عليه ، والمفيدة العمل به ، وهو الذي يعطيك السعادة الأبدية ، ولا تخالف فيه ، فهو نور من أنوار اللّه تعالى يقذفه في قلب من أراد من عباده ، وهو معنى قائم بنفس العبد يطلعه على حقائق الأشياء ، وهو للبصيرة كنور الشمس للبصر ، بل أتم وأشرف ، وكل من ادعى علما من غير عمل فدعواه كاذبة إن تعلق به خطاب عمل ، ولهذا لم يأمر اللّه نبيه صلّى اللّه عليه وسلم أن يطلب من اللّه تعالى الزيادة من شيء إلا من العلم ، فإنه أشرف الصفات وأنزه السمات ، فالعلم سبب النجاة وإن شقي في الطريق ، فالمآل إلى النجاة ، فلو علم المشرك ما يستحقه الحق من نعوت الجلال لعلم أنه لا يستحق أن يشرك به ، ولو علم المشرك أن الذي جعله شريكا لا يستحق أن يوصف بالشركة للّه في ألوهته لما أشرك ، فما أخذ إلا بالجهل من الطرفين .

ولما كانت العلوم الشريفة العالية التي إذا اتصف بها الإنسان زكت نفسه وعظمت مرتبته أعلاها العلم باللّه ،

لهذا أمر الحق تعالى نبيه أن يقول «رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» فهذا العلم الذي أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بطلب المزيد منه ، هو العلم باللّه عن طريق التجلي والذوق ، فإنه أشرف الطرق إلى تحصيل العلوم ، لا علم التكليف ، فإن النقص منه هو مطلوب الأنبياء عليهم السلام ،

فقوله تعالى «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» يريد من العلم به ، من حيث ما له تعالى من الوجوه في كل مخلوق ومبدع ،

وهو علم الحقيقة ، فإنه لما كان الخلق على الدوام دنيا وآخرة فالمعرفة تحدث على الدوام دنيا وآخرة ، ولذا أمر بطلب الزيادة من العلم ، أتراه أمره صلّى اللّه عليه وسلم بطلب الزيادة من العلم بالأكوان ؟ لا واللّه ، ما أمر إلا بالزيادة من العلم باللّه ، بالنظر فيما يحدثه من الكون ، فيعطيه ذلك الكون عن أيّة نسبة إلهية ظهر ،

ولهذا نبّه صلّى اللّه عليه وسلم القلوب في دعائه [ اللهم إني أسألك بكل اسم سميت به نفسك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم غيبك ]

والأسماء نسب إلهية والغيب لا نهاية له ، فلا بد من الخلق على الدوام ، فكأنما يقول صلّى اللّه عليه وسلم : ارفع عني اللّبس الذي يحول بيني وبين العلم بالخلق الجديد ، فيفوتني خير كثير حصل في الوجود لا أعلمه ، لذا أمر اللّه نبيه صلّى اللّه عليه وسلم أن يدعوه بأن يزيده بطلبه علما به في كل ما يعطيه ، وهو وجه الحق في كل شيء ،

فما طلب الزيادة من علم الشريعة ، بل كان يقول [ اتركوني ما تركتكم ]

فالشرف كله إنما هو في العلم ، والعالم به بحسب ذلك العلم ، فإن أعطى عملا في جانب الحق عمل به ، وإن أعطاه عملا في جانب الخلق عمل به ، فهو يمشي في بيضاء نقية سمحاء ،


لا يرى فيه عوجا ولا أمتا ، وما طلب الزيادة من العلم إلا من الرب ، ولهذا جاء مضافا لاحتياج العالم إليه أكثر من غيره من الأسماء ، لأنه اسم لجميع المصالح ، وهو من الأسماء الثلاث الأمهات ، وهي : اللّه والرحمن والرب ، فقال «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» أي زدني من كلامك ما أزيد به علما بك ، يرقى به عنده منزلة لم تكن له ، فالمراد بهذه الزيادة من العلم المتعلق بالإله ليزيد معرفة بتوحيد الكثرة ، فتزيد رغبته في تحميده ، فيزاد فضلا على تحميده دون انتهاء ولا انقطاع ، فطلب منه الزيادة وقد حصل من العلوم والأسرار ما لم يبلغه أحد ، ومما يؤيد ما ذكرناه من أنه أمر بالزيادة من علم التوحيد لا من غيره ، أنه كان صلّى اللّه عليه وسلم إذا أكل طعاما قال [ اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه ]

وإذا شرب لبنا قال [ اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه ] لأنه أمر بطلب الزيادة ،

فكان يتذكر عندما يرى اللبن اللبن الذي شربه ليلة الإسراء ،

فقال له جبريل : أصبت الفطرة أصاب اللّه بك أمتك ، والفطرة علم التوحيد الذي فطر اللّه الخلق عليها حين أشهدهم حين قبضهم من ظهورهم

وقال لهم : ألست بربكم ؟

قالوا : بلى ، فشاهدوا الربوبية قبل كل شيء ، ولهذا تأول صلّى اللّه عليه وسلم اللبن لما شربه في النوم وناول فضله عمر ، قيل : ما أولته يا رسول اللّه ؟

قال : العلم ، فلو لا حقيقة مناسبة بين العلم واللبن جامعة ما ظهر بصورته في عالم الخيال ، عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله ،

واعلم أن اللّه تعالى أمر نبيه أن يقول «رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» وما أمره إلى وقت معين ولا حد محدود ، بل أطلق ، فطلب الزيادة والعطاء دنيا وآخرة ، فقد أمر صلّى اللّه عليه وسلم بطلب الزيادة مع كونه قد حصل علم الأولين والآخرين وأوتي جوامع الكلم ، فإنه لا يعظم على اللّه شيء طلب منه ، فإن المطلوب منه لا يتناهى فليس له طرف نقف عنده ، فوسع في طلب المزيد ، يقول النبي صلّى اللّه عليه وسلم في شأن يوم القيامة [ فأحمده ]

يعني إذا طلب الشفاعة [ بمحامد يعلمنيها اللّه لا أعلمها الآن ] فاللّه لا يزال خلاقا إلى غير نهاية فينا ، فالعلوم إلى غير نهاية ، ولا شيء أشرف من العلم ، ولم يأمر بطلب زيادة في غيره من الصفات ، لأنه الصفة العامة التي لها الإحاطة بكل صفة وموصوف فطلب المزيد من العلم عبادة مأمور بها .

فالعلم أشرف نعت ناله بشر *** وصاحب العلم محفوظ عليه مصون

إن قام قام به أو راح راح به *** والحال والمال في حكم الزوال يكون

ولما كانت أعلى الطرق إلى العلم باللّه علم التجليات ، أردف سبحانه هذه الآية بقوله «وَعَنَتِ


الوجوه للحي القيوم» أي ذلت فأراد علوم التجلي ، والتجلي أشرف الطرق إلى تحصيل العلوم ، وهي علوم الأذواق ، وكل تجل إلهي لا بد أن يصحبه زيادة في العلم ، فزاد هنا من العلم العلم بشرف التأني عند الوحي ، فقوله تعالى «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً»

بما يكون من اللّه إليه برفع الوسائط ، وما أسمعنا اللّه ذلك إلا تنبيها لنقول ذلك ونطلبه من اللّه ، ولو كان خصوصا بالنبي لم يسمعنا ، أو كان يذكر أنه خاص به كما قال في نكاح الهبة ،

فإذا سأل الإنسان مزيد العلم فليسأل كما أمر اللّه تعالى نبيه أن يسأل إذ قال له «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» فنكر ولم يعين ، فعمّ ،

فأي علم نزل عليه دخل تحت هذا السؤال ، فإن النزول عن سؤال أعظم لذة من النزول عن غير سؤال ، فإن في ذلك إدراك البغية وذلة الافتقار ، وإعطاء الربوبية حقها والعبودة حقها ، وفي العلم المنزل عن السؤال من علو المنزلة ما لا يقدّر قدر ذلك إلا اللّه

- تحقيق -إذا قلت : ما لا بد منه هو يأتيك من غير طلب ، لأنه من المحال الإقامة على أمر واحد زمانين ، فلا يحتاج إلى طلب الزائد ،

قلنا : قال تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلم «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» ينبهه وإيانا على أن ثمّ أمرا آخر زائدا على ما هو الحاصل في الوقت ، لنتهمم لقدومه ، وليظهر من العبد الافتقار إلى اللّه بالدعاء في طلب الزيادة ، والزائد غير معيّن عندك ، فإذا عينه الدعاء والحق يجيب ، فقد تعيّن عندك ما تدعو فيه ، وهو الذي أمر اللّه به نبيه صلّى اللّه عليه وسلم أن يزيده بطلبه علما به في كل ما يعطيه .

والعلم أشرف ما يؤتيه من منح ***والكشف أعظم منهاج وأوضحه

فإن سألت إله الحق في طلب *** فسله كشفا فإن اللّه يمنحه

وأدمن القرع إن الباب أغلقه *** دعوى الكيان وجود اللّه يفتحه

[سورة طه (20) : الآية 115]

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)

خلق اللّه تعالى آدم بيديه وما حفظه من المعصية ولا من النسيان ، وما توجهت اليدان إلا على طينته وطبيعته ، وما جاءته الوسوسة إلا من جهة طبيعته ، لأن الشيطان وسوس إليه وهو مخلوق من جزء ما خلق منه آدم ، فما نسي ولا قبل الوسوسة إلا من طبيعته ،

فإن هذه النشأة من حكم الطبيعة فيها الجحد والنسيان ،

فكانت حركة آدم في جحده حركة طبيعية ، وفي نسيانه أثر طبيعي ، فلو تناسى لكان الأمر من حركة الطبيعة ، كالجحد من


حيث أنه جحد هو أثر طبيعي ، ومن حيث ما هو جحد بكذا هو حكم طبيعي لا أثر ، فهذا الفرق بين حكم الطبيعة وبين أثرها ، والنسيان من أثرها والتناسي من حكمها ، والغفلة من أثرها والتغافل من حكمها ، وقليل من العلماء باللّه من يفرق بين حكم الطبيعة وأثرها ،

فاجتمع في آدم حكم الطبيعة بالجحد ، لأنه الأول الجامع في ظهره للجاحدين من أبنائه ، لأن آدم إنسان كامل ، وكذا النسيان الواقع منه هو من أثر الطبيعة وحكم الأبناء ، فإنه حامل في ظهره للناسين من أبنائه ، فحكموا عليه بالنسيان ، وسرى الجحد والنسيان في بني آدم من جحد آدم ونسيانه جبرا لقلب آدم ،

قال تعالى «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ» والذي نسي آدم إنما هو قوله تعالى (هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ)

فنسي ما أخبره اللّه به من عداوته ، فقبل نصيحته ، فنسيان آدم عليه السلام إنما كان أخبره اللّه تعالى به من عداوة إبليس ، وما تخيل آدم عليه السلام أن أحدا يقسم باللّه كاذبا ،

فلما أقسم باللّه إنه ناصح لهما فيما ذكره لهما ، تناولا من الشجرة المنهي عنها ، وفي هذا تنبيه في أن الاجتهاد لا يسوغ مع وجود النص في المسألة ، وربما وقعت المعصية بتأويل منه ، ولو نسي النهي ما عوقب أصلا ، وإنما نسي ما ذكرناه ، وفي عداوة إبليس لحواء بشرى لها بالسعادة لأنها لو كانت من حزب الشيطان ما كان عدوا له

«وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» وهو عمل الباطن ، فبرأ الحق باطن آدم من المعصية ، وكان عند اللّه وجيها مجتبى ،

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم [ نسي آدم فنسيت ذريته ، وجحد آدم فجحدت ذريته ]

وهذا حديث بشرى من النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فإن آدم رحمه اللّه فرحمت ذريته ، حيثما كانوا جعل لهم رحمة تخصهم ، بأي دار أنزلهم اللّه تعالى .

[سورة طه (20) : الآيات116إلى 119]

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)

الترتيب في الظاهر على خلاف ذلك ، ولكن الحكمة في ذلك أن الحرارة سبب الظمأ ، فقرنه بالضحى ، والجوع تعرية باطن الحيوان ، فذلك قرنه بتعرية ظاهر الأبدان.


[سورة طه (20) : الآيات 120]

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)

فصدقه وهو الكذوب ، فتلطّف إبليس في الإغواء تلطف المستدرج في الاستدراج ، والماكر في المكر ، والخادع في الخداع ، فكان لآدم بعد المؤاخذة ما أعطته خاصية تلك الشجرة لمن أكل من ثمرها من الخلد والملك الذي لا يبلى .

[سورة طه (20) : الآيات 121]

فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)

اعلم أن الأمر الإلهي لا يخالف الإرادة ، فإنها داخلة في حدّه وحقيقته ، وإنما وقع الالتباس من تسميتهم صيغة الأمر أمرا وليست بأمر ، والصيغة مرادة بلا شك ، فأوامر الحق إذا وردت على ألسنة المبلغين فهي صيغ الأوامر لا الأوامر فتعصى ،

وقد يأمر الآمر بما لا يريد وقوع المأمور به ، فما عصى أحد قط أمر اللّه ، وهو قوله إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون ؛

وبهذا علمنا أن النهي الذي خوطب به آدم عن قرب الشجرة إنما كان بصيغة لغة الملك الذي أوحى إليه به ، ولما علم إبليس أن آدم محفوظ من اللّه ، ورأى اللّه قد نهاه عن قرب الشجرة لا قرب الثمرة ، جاء بصورة الأكل لا بصورة القرب ،

فإنه علم أنه لا يفعل لنهي ربه إياه عن قرب الشجرة ، فأتاه بثمرها فأكل آدم وزوجته حواء ، وصدّقا إبليس وهو الكذوب في قوله (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى)

ولما كان آدم قد نهي ولم يؤمر أمر إيجاب ، وكان حاملا للمخالف من ولده في ظهره والطائع ، فأوقع المخالفة عن حركة المخالف ، فلما رماه من صلبه ، ما بلغنا أن آدم عليه السلام عصى ربه بعد ذلك أبدا ، وأفرد بالمعصية دون أهله في قوله «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ»

- الوجه الأول-والنهي وقع عليهما والفعل وقع عنهما ، لأنها بعض من كلّه ، فهي جزء منه ، فكأنها ما ثمّ إلا هو ، فأهدرت في اللفظ ولم تذكر ، وذكر آدم «فَغَوى» ومن غوى هوى ، ألا تراه هبط ، وفي يديه سقط ، فاستدرك الغلط حين هبط ، فتلقى من ربه ما تلقاه من الكلمات فتاب ، ففاز بحسن المآب ، لأنه ما قصد انتهاك الحرمة ، ولا الخروج من النور إلى الظلمة

- الوجه الثاني - «وَعَصى


آدَمُ رَبَّهُ» لما نهاه عن قرب الشجرة فأكل من ثمرتها ، فأضاف المعصية إلى ظاهر آدم ، لأن المعصية بالظاهر وقعت وهو القرب من الشجرة والأكل ، بعد أن برأ باطنه منها ، وما حفظ اللّه تعالى آدم من المعصية مما حمله في طينته من عصاة بنيه ، فآدم عليه السلام مع خلقه باليدين عصى بنفسه ولم يحفظ «فَغَوى» أي فخاف ، وهو قد أكل بالتأويل وظن أنه مصيب غير منتهك للحرمة في نفس الأمر ، وكان متعلق النهي القرب لا الأكل . فيقوى التأويل وغوى هنا بمعنى خاف ،

قال الشاعر «1» : ومن يغو لا يعدم على الغي لائما ؛ ولما كان آدم هو الأب الأعظم في الجسمية ، والمقرب عند اللّه وأول هذه النشأة الترابية ، ظهرت فيه المقامات كلها حتى المخالفة ، إذ كان جامعا للقبضتين : قبضة الوفاق وقبضة الخلاف ، فما تحرك من آدم لمخالفة النهي إلا النسمة المجبولة على المخالفة ، فكانت مخالفته نهي اللّه من تحرك تلك النسمة التي كان يحملها في ظهره لما عصى ، ثم خاف ، قال اللّه تعالى في حقه .

[سورة طه (20) : الآية 122]

ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)

«ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ» فهو مجتبى ، فآدم عليه السلام لولا خطيئته ما ظهرت سيادته في الدنيا ، فهي التي أورثته الاجتباء ، فما خرج من الجنة بخطيئته إلا لتظهر سيادته ، فكان هبوطه هبوط خلافة لا هبوط بعد «فَتابَ عَلَيْهِ» فكان اللّه هو التائب لا آدم ، والذي صدر من آدم ما اقتضته خاصية الكلمات التي تلقاها ، وما فيها ذكر توبته ، وإنما هو مجرد اعتراف وهو قوله (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) فأنتج لهما هذا الاعتراف قوله تعالى «فَتابَ عَلَيْهِ» أي رجع عليه بالرحمة ، فرجع عليه بستره ، فحال بينه ذلك الستر الإلهي وبين العقوبة التي تقتضيها المخالفة ، وجعل ذلك من عناية الاجتباء ، أي لما اجتباه أعطاه الكلمات ، ورجع عليه بالصفة التي كان يعامله بها ابتداء من التقريب ، والاعتناء الذي جعله خليفة عنه في خلقه ، وكمل به وفيه وجود العالم «وَهَدى»

- الوجه


(1) أنشد الأصمعي للمرقّش :

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره *** ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائم

وغوى عند الجوهري بمعنى خاب (تاج العروس ، ولسان العرب) ولا يوجد في المعاجم غوى بمعنى خاف إلا أن تكون لغة لم تصل إلينا أو تصحيفا لخاب ، وخاف أليق بمكانة آدم عليه السلام .


الأول-أي بيّن له قدر ما فعل وقدر ما يستحقه من الجزاء ، وقدر ما أنعم عليه من الاجتباء ، وبيّن له أنه رجع عليه بالرحمة فعمّته

- الوجه الثاني- «وَهَدى» به من هدى ، ومع التوبة قال له : اهبط ، هبوط ولاية واستخلاف لا هبوط طرد ، فهو هبوط مكان لا هبوط رتبة ، ولهذا يضعف القول بتسرمد العذاب ، فإن النار مع كونها دار ألم فإن حكم العذاب زائد على كونها دارا ، فإنا نعلم أن خزنتها في نعيم دائم ، ما هم فيها بمعذبين مع كونهم ما هم منها بمخرجين ، لأنهم لها خلقوا ، وهي دائمة والساكن فيها دائم لكونه مخلوقا لها ، فلما شملت الرحمة آدم بجملته ، وكان حاملا لكل بنيه بالقوة ، عمت الرحمة الجميع ، إذ لا تحجير ، ولا كان يستحق أن يسمى آدم مرحوما وفيه من لا يقبل الرحمة ، والحق يقول «فَتابَ عَلَيْهِ»

أي رجع عليه بالرحمة «وَهَدى» أي بيّن له أنه رجع عليه بها فعمته ، ولهذا يرجى لأهل الشقاء أن لا يتسرمد عليهم العذاب ، قال تعالى «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى» وما تركه سدى ، فأغاظ اللّه به الأعداء ، وأفرح به الملائكة الأوداء ، فتلقى من ربه الكلمات ، وكانت له من أعظم الهبات ، فتحقق بحقائق المحبة ، ورجع إلى ما كان عليه من المنزلة والقربة ، وهذا حكم سار في الذرية ، أعطته هذه البنية ، فما ثمّ إلا من همّ ولمّ ، وإن كان الموجود الأتم ، فاعلم إن كنت تعلم ، فاجتبي آدم عليه السلام قبل أن يتاب عليه ، لأن سابقة قدمه سبقت إليه.

[سورة طه (20) : الآيات 123إلى 125]

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)

قلنا إن السمع والبصر قسمان :عادي وحقيقي،

فالعادي سمع القلب بالأذن وإبصاره بالعين، وهو عام في المؤمن والكافر ،

والحقيقي بصر العين بالقلبوسمع الأذن به، وقد نفاه اللّه تعالى عن الكافر في غير ما آية ، وبهذا يفهم قوله تعالى «وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ، قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً» مع العلم بأن اللّه تعالى يعيدهم بأبصارهم


العادية كحالهم في الدنيا ، تحقيقا لقوله تعالى (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) ولكن الحكم في تلك الدار للأبصار الحقيقية المستفادة من نور صفاته ، بواسطة استجابة القلب لآياته ، وتوجهه لنورها إلى عالم الغيب ، وقلب الكافر في الدنيا كان خاليا من نور التوحيد ، فكان بصره لا يرجع إلى قلبه ، لأنه لا مدد له إلا من حسه ، وهو أعمى عن نور آيات التوحيد ، لا جرم أنه يحشر يوم القيامة أعمى كما كان في الدنيا ، لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ، فكذلك إذا قال «لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً ".

[سورة طه (20) : الآية 126]

قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)

أي لا بصر في هذه الدار إلا من نور صفاتي المستفادة من الاستجابة لآياتي ، ومن لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور

ولذلك قال تعالى:

[سورة طه (20) : الآيات 127إلى 130]

وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)

الصباح والمساء أطراف النهار ، فالمساء ابتداء الليل ، والصباح انتهاء الليل ، والنهار ما بين الانتهاء والابتداء ، والليل ما بين الابتداء والانتهاء ،

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم [ من سبّح اللّه مائة بالغداة ومائة بالعشي كان كمن حج مائة حجة ] يعني مقبولة

[ ومن حمد اللّه مائة بالغداة ومائة بالعشي كان كمن حمل على مائة فرس في سبيل اللّه ، أو قال غزا مائة غزوة ، ومن هلل اللّه مائة بالغداة ومائة بالعشي كان كمن أعتق مائة رقبة من ولد إسماعيل ، ومن كبر اللّه مائة بالغداة ومائة بالعشي لم يأت في ذلك اليوم أحد أكثر مما أتى إلّا من قال مثل


ما قال أو زاد على ما قال ] أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب ،

وهو قوله عزّ وجل «وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها» فأمرنا بالتسبيح آناء الليل وأطراف النهار ، وما تعرض لذكر النهار في هذا الحكم لأنه قال (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلً) أي فراغا ، فالنهار لك والليل وأطراف النهار له ، فإذا كنت له في الليل وأطراف النهار كان لك هو في النهار ، فعطايا الليل وأطراف النهار جزاء التسبيح ، وعطايا النهار جزاء الاشتغال والفراغ إلى الحق في آناء الليل وأطراف النهار.

[سورة طه (20) : الآية 131]

وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)

"وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» ليس هذا قوله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ)

فإن الغض له حكم آخر ، لأنه نقص مما تمتد العين إليه ، والنقص هنا أن لا يمد إلى أمر خاص ، أي إلى مرئي خاص ، فعلم ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فزاد علما إلى علمه ،" إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا "

وقد جعل اللّه النساء زهرة حيث كن ، فإذا كن في الدنيا كن زهرة الحياة الدنيا ، فوقع النعيم بهن حيث كن ، وأحكام الأماكن تختلف ، فهن وإن خلقن للنعيم في الدنيا فهن فتنة «لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ» يستخرج الحق بهن ما خفي عنا فينا مما هو به عالم ولا نعلمه من نفوسنا ، فيقوم به الحجة لنا وعلينا ، وما فتنهم الحق إلا بما سماه زهرة لهم ،

لما كانت الزهرة دليلة على الثمرة ومتنزها للبصر ومعطية الرائحة الطيبة ،

فإذا لم يدرك صاحب هذه الزهرة رائحتها ولا شهدها زهرة وإنما شهدها امرأة ولا علم دلالتها التي سيقت له على الخصوص وزوجت به ،

وتنعم بها ونال منها ما نال بحيوانيته لا بروحه وعقله ، فلا فرق بينه وبين سائر الحيوان ، بل الحيوان خير منه ، لأن كل حيوان مشاهد لفصله المقوم له ، وهذا الشخص ما وقف مع فصله المقوّم له :

كل شخص زوجه من نفسه *** ولهذا زوجه من جنسه

فهو كل وهي جزء فلذا *** كثرت أزواجه من نفسه

«وَرِزْقُ رَبِّكَ» ما أعطاك مما أنت عليه في وقتك ، وما لم يعطك وهو لا بد لك فلا بد من


وصوله إليك ، وما أبطأ به إلا الوقت الزماني الذي هو له ، وما ليس لك فلا يصل إليك ، فتتعب نفسك حيث طمعت في غير مطمع ، وما أعني بقولنا إنه لك إلا ما تناله على الحد الإلهي الذي أباحه لك ، وإن نلته على غير ذلك الحد فما نلت ما هو لك من جانب الحق ، إنما نلت ما هو لك من جانب الطبع ، وليس المراد في الدنيا إلا ما تناله من جانب الحق ، فالحق للدنيا والطبع للآخرة ، والطبع له الإباحة والحق له التحجير ، فانظر إلى عطايا ربك فإنها أكثر ما تكون ابتلاء ، ولا تعرف ذلك إلا بالميزان ، وذلك أن كل عطاء يصل إليك فهو رزق ربك ، ولكن على الميزان المشروع فهو «خَيْرٌ وَأَبْقى» والذي هو خير وأبقى هو الحال الذي هو عليه في ذلك الوقت الذي رزقه ، فإنه تعالى لا يتّهم في إعطائه الأصلح لعبده ، فما أعطاه إلا ما هو خير في حقه وأسعد عند اللّه وإن قل ، فإنه ربما لو أعطاه ما يتمناه العبد طغى وحال بينه وبين سعادته ، فإن الدنيا دار فتنة.

[سورة طه (20) : الآية 132]

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)

" وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» يريد الصلاة ، قال تعالى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) يعني بالصبر على الصلاة .

[سورة طه (20) : الآيات 127إلى 130]

وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)

أذل الأذلاء من كان له عزّ وجل ، لأن ذل الذليل على قدر من ذلّ تحت عزّه ، ولا عز أعظم من عز الحق ، فلا ذل أذل ممن هو للّه ، ومن ذل للّه لا يذل لغير اللّه أصلا ، وأما الخزي فلا يخزى إذا كان للّه ، فإن الخزي لا يكون من اللّه لمن هو له ، وإنما يكون لمن هو لغير اللّه في شهوده ، ولذلك قالت خديجة وورقة بن نوفل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم [ كلا واللّه ل


يخزيك اللّه أبدا ] لما ذكر له ابتداء نزول الناموس عليه ، فالذل صفة شريفة إذا كانت الذلة للّه ، والخزي صفة ذميمة بكل وجه ، فالخزي الذي يقوم بالعبد إنما هو ما جناه على نفسه بجهله وتعديه رسوم سيده وحدوده ، فجميع مذام الأخلاق وسفسافها صفات مخزية عند اللّه وفي العرف ، فمن كان للّه لم يذل ولا يخزى أبدا .

------------

(111) الفتوحات ج 2 / 182 ، 671 - ج 1 / 166 - كتاب التنزلات الموصلية

تفسير ابن كثير:

وقوله : ( إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ) وذلك أنه لما استقر عند آل فرعون ، عرضوا عليه المراضع ، فأباها ، قال الله عز وجل : ( وحرمنا عليه المراضع من قبل ) فجاءت أخته وقالت ( هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ) [ القصص : 12 ] . تعني هل أدلكم على من ترضعه لكم بالأجرة ؟ فذهبت به وهم معها إلى أمه ، فعرضت عليه ثديها ، فقبله ، ففرحوا بذلك فرحا شديدا ، واستأجروها على إرضاعه فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة في الدنيا وفي الآخرة أغنم وأجزل ; ولهذا جاء في الحديث : " مثل الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير ، كمثل أم موسى ، ترضع ولدها وتأخذ أجرها " .

وقال تعالى هاهنا : ( فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن ) أي : عليك ، ( وقتلت نفسا ) يعني : القبطي ، ( فنجيناك من الغم ) وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله ففر منهم هاربا ، حتى ورد ماء مدين ، وقال له ذلك الرجل الصالح : ( لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) [ القصص : 25 ] .

وقوله : ( وفتناك فتونا ) قال الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ، رحمه الله ، في كتاب التفسير من سننه ، قوله : ( وفتناك فتونا ) :

حديث الفتون

حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا أصبغ بن زيد ، حدثنا القاسم بن أبي أيوب ، أخبرني سعيد بن جبير ، قال : سألت عبد الله بن عباس عن قول الله - عز وجل - لموسى ، عليه السلام : ( وفتناك فتونا ) فسألته عن الفتون ما هو ؟ فقال : استأنف النهار يا بن جبير ، فإن لها حديثا طويلا . فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون ، فقال : تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم ، عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا ، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك ، ما يشكون فيه وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب ، فلما هلك قالوا : ليس هكذا كان وعد إبراهيم ، فقال فرعون : فكيف ترون ؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار ، يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه . ففعلوا ذلك ، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، والصغار يذبحون ، قالوا : يوشك أن تفنوا بني إسرائيل ، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونكم ، فاقتلوا عاما كل مولود ذكر ، فيقل أبناؤهم ودعوا عاما فلا تقتلوا منهم أحدا ، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار; فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم ، ولم يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم ، فأجمعوا أمرهم على ذلك .

فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانية آمنة . فلما كان من قابل حملت بموسى ، عليه السلام ، فوقع في قلبها الهم والحزن ، وذلك من الفتون - يا بن جبير - ما دخل عليه في بطن أمه ، مما يراد به ، فأوحى الله جل ذكره إليها أن ( لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) [ القصص : 7 ] فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم . فلما ولدت فعلت ذلك ، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان ، فقالت في نفسها : ما فعلت بابني ، لو ذبح عندي فواريته وكفنته ، كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه .

فانتهى الماء به حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون ، فلما رأينه أخذنه فهممن أن يفتحن التابوت ، فقال بعضهن إن في هذا مالا وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدناه فيه ، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئا حتى رفعنه إليها . فلما فتحته رأت فيه غلاما ، فألقي عليه منها محبة لم يلق منها على أحد قط . وأصبح فؤاد أم موسى فارغا من ذكر كل شيء ، إلا من ذكر موسى .

فلما سمع الذباحون بأمره ، أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه ، وذلك من الفتون يا بن جبير ، فقالت لهم : أقروه ، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتي فرعون فأستوهبه منه ، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمر بذبحه لم ألمكم .

فأتت فرعون فقالت : ( قرة عين لي ولك ) [ القصص : 9 ] فقال فرعون : يكون لك ، فأما لي فلا حاجة لي فيه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته ، لهداه الله كما هداها ، ولكن حرمه ذلك " . فأرسلت إلى من حولها ، إلى كل امرأة لها لبن لتختار له ظئرا ، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت ، فأحزنها ذلك ، فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ، ترجو أن تجد له ظئرا تأخذه منها ، فلم يقبل ، وأصبحت أم موسى والها ، فقالت لأخته : قصي أثره واطلبيه ، هل تسمعين له ذكرا ، أحي ابني أم قد أكلته الدواب ؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه ، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون - والجنب : أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد وهو إلى جنبه وهو لا يشعر به - فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤرات : أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون . فأخذوها فقالوا : ما يدريك ؟ ما نصحهم له ؟ هل يعرفونه ؟ حتى شكوا في ذلك ، وذلك من الفتون يا بن جبير . فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في ظؤرة الملك ، ورجاء منفعة الملك . فأرسلوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر . فجاءت أمه ، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه ، حتى امتلأ جنباه ريا ، وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا . فأرسلت إليها . فأتت بها وبه فلما رأت ما يصنع بها قالت : امكثي ترضعي ابني هذا ، فإني لم أحب شيئا حبه قط . قالت أم موسى : لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع ، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي ، فيكون معي لا آلوه خيرا ؛ فعلت ، وإلا فإني غير تاركة بيتي وولدي . وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فيه ، فتعاسرت على امرأة فرعون ، وأيقنت أن الله منجز وعده فرجعت به إلى بيتها من يومها ، وأنبته الله نباتا حسنا وحفظه لما قد قضى فيه .

فلم يزل بنو إسرائيل ، وهم في ناحية القرية ، ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم ، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى : أتريني ابني ؟ فوعدتها يوما تريها إياه فيه ، وقالت امرأة فرعون لخزانها وظؤرها وقهارمتها : لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة لأرى ذلك وأنا باعثة أمينا يحصي ما يصنع كل إنسان منكم ، فلم تزل الهدايا والنحل والكرامة تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون ، فلما دخل عليها نحلته وأكرمته ، وفرحت به ونحلت أمه لحسن أثرها عليه ، ثم قالت : لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه ، فلما دخلت به عليه جعله في حجره ، فتناول موسى لحية فرعون يمدها إلى الأرض ، فقال الغواة من أعداء الله لفرعون : ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه ، إنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك ، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه . وذلك من الفتون يا بن جبير بعد كل بلاء ابتلي به ، وأريد به .

فجاءت امرأة فرعون فقالت ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي ؟ فقال : ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني! فقالت : اجعل بيني وبينك أمرا يعرف فيه الحق ، ائت بجمرتين ولؤلؤتين ، فقربهن إليه ، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين فاعرف أنه يعقل ، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين ، علمت أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل . فقرب إليه فتناول الجمرتين ، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده ، فقالت المرأة : ألا ترى ؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان قد هم به ، وكان الله بالغا فيه أمره .

فلما بلغ أشده وكان من الرجال ، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة ، حتى امتنعوا كل الامتناع ، فبينما موسى ، عليه السلام ، يمشي في ناحية المدينة ، إذا هو برجلين يقتتلان ، أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فغضب موسى غضبا شديدا; لأنه تناوله وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل وحفظه لهم ، لا يعلم الناس إلا أنما ذلك من الرضاع ، إلا أم موسى ، إلا أن يكون الله سبحانه أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره . فوكز موسى الفرعوني فقتله ، وليس يراهما أحد إلا الله عز وجل والإسرائيلي ، فقال موسى حين قتل الرجل : ( هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ) [ القصص : 15 ] . ثم قال ( رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ) [ القصص : 16 ] فأصبح في المدينة خائفا يترقب الأخبار ، فأتى فرعون ، فقيل له : إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم . فقال : ابغوني قاتله ، ومن يشهد عليه ، فإن الملك وإن كان صغوه مع قومه لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت ، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم . فبينما هم يطوفون ولا يجدون ثبتا ، إذا بموسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلا من آل فرعون آخر . فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فصادف موسى قد ندم على ما كان منه وكره الذي رأى ، فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني ، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم : ( إنك لغوي مبين ) فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال ، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني فخاف أن يكون بعد ما قال له : ( إنك لغوي مبين ) [ القصص : 18 ] أن يكون إياه أراد ، ولم يكن أراده ، وإنما أراد الفرعوني . فخاف الإسرائيلي وقال : ( يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ) [ القصص : 19 ] وإنما قاله مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله ، فتتاركا ، وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول : ( أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ) فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى ، فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هيئتهم يطلبون موسى ، وهم لا يخافون أن يفوتهم ، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة ، فاختصر طريقا حتى سبقهم إلى موسى ، فأخبره وذلك من الفتون يا بن جبير .

فخرج موسى متوجها نحو مدين ، لم يلق بلاء قبل ذلك ، وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عز وجل ، فإنه قال : ( عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان ) [ القصص : 22 ، 23 ] .

يعني بذلك حابستين غنمهما ، فقال لهما : ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس ؟ قالتا ليس لنا قوة نزاحم القوم ، إنما ننتظر فضول حياضهم . فسقى لهما ، فجعل يغترف في الدلو ماء كثيرا ، حتى كان أول الرعاء ، فانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما ، وانصرف موسى ، عليه السلام ، فاستظل بشجرة ، وقال : ( رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ) [ القصص : 24 ] . واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا بطانا فقال : إن لكما اليوم لشأنا ، فأخبرتاه بما صنع موسى ، فأمر إحداهما أن تدعوه ، فأتت موسى فدعته ، فلما كلمه قال : ( لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) [ القصص : 25 ] . ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان ولسنا في مملكته ، فقالت إحداهما : ( يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ) [ القصص : 26 ] فاحتملته الغيرة على أن قال لها : ما يدريك ما قوته ؟ وما أمانته ؟ فقالت : أما قوته ، فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا ؛ لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه ، وأما الأمانة فإنه نظر إلي حين أقبلت إليه وشخصت له ، فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه ، حتى بلغته رسالتك . ثم قال لي : امشي خلفي ، وانعتي لي الطريق . فلم يفعل هذا إلا وهو أمين ، فسري عن أبيها وصدقها ، وظن به الذي قالت .

فقال له : هل لك ( أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ) [ القصص : 27 ] ففعل فكانت على نبي الله موسى ثماني سنين واجبة ، وكانت سنتان عدة منه ، فقضى الله عنه عدته فأتمها عشرا .

قال سعيد - وهو ابن جبير - : فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم قال : هل تدري أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا . وأنا يومئذ لا أدري . فلقيت ابن عباس ، فذكرت له ذلك ، فقال : أما علمت أن ثمانيا كانت على نبي الله واجبة ، لم يكن لنبي الله أن ينقص منها شيئا ، ويعلم أن الله كان قاضيا عن موسى عدته التي وعده فإنه قضى عشر سنين . فلقيت النصراني فأخبرته ذلك ، فقال : الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك . قلت : أجل ، وأولى .

فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن ، فشكا إلى الله تعالى ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه ، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيههارون ، يكون له ردءا ، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه . فآتاه الله سؤله ، وحل عقدة من لسانه ، وأوحى الله إلى هارون وأمره أن يلقاه . فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون ، عليهما السلام . فانطلقا جميعا إلى فرعون ، فأقاما على بابه حينا لا يؤذن لهما ، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد ، فقالا ( إنا رسولا ربك ) [ طه : 47 ] . قال : فمن ربكما ؟ فأخبره بالذي قص الله عليك في القرآن ؟ قال : فما تريدان ؟ وذكره القتيل ، فاعتذر بما قد سمعت . قال : أريد أن تؤمن بالله ، وترسل معي بنى إسرائيل ؟ فأبى عليه وقال : ( فأت بآية إن كنت من الصادقين ) [ الشعراء : 154 ] . فألقى عصاه فإذا هي حية تسعى عظيمة فاغرة فاها ، مسرعة إلى فرعون . فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها ، فاقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه . ففعل ، ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء - يعني من غير برص - ثم ردها فعادت إلى لونها الأول . فاستشار الملأ حوله فيما رأى ، فقالوا له : هذان ساحران ( يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى ) [ طه : 63 ] يعني : ملكهم الذي هم فيه والعيش ، وأبوا على موسى أن يعطوه شيئا مما طلب ، وقالوا له : اجمع السحرة فإنهم بأرضك كثير حتى تغلب بسحرك سحرهما . فأرسل إلى المدائن فحشر له كل ساحر متعالم ، فلما أتوا فرعون قالوا : بم يعمل هذا الساحر ؟ قالوا : يعمل بالحيات . قالوا : فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل . فما أجرنا إن نحن غلبنا ؟ قال لهم : أنتم أقاربي وخاصتي ، وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم ، فتواعدوا يوم الزينة ، وأن يحشر الناس ضحى .

قال سعيد بن جبير : فحدثني ابن عباس : أن يوم الزينة الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة ، هو يوم عاشوراء .

فلما اجتمعوا في صعيد واحد قال الناس بعضهم لبعض : انطلقوا فلنحضر هذا الأمر ، ( لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ) [ الشعراء : 40 ] يعنون موسى وهارون استهزاء بهما ، فقالوا : يا موسى - لقدرتهم بسحرهم - ( إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين ) [ الأعراف : 115 ] ( قال بل ألقوا ) [ طه : 66 ] ( فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ) [ الشعراء : 44 ] فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة فأوحى الله إليه أن ألق عصاك ، فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيمة فاغرة فاها ، فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت جزرا إلى الثعبان ، تدخل فيه ، حتى ما أبقت عصا ولا حبالا إلا ابتلعته ، فلما عرفت السحرة ذلك قالوا : لو كان هذا سحرا لم يبلغ من سحرنا كل هذا ، ولكنه أمر من الله عز وجل ، آمنا بالله وبما جاء به موسى ، ونتوب إلى الله مما كنا عليه . فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه ، وظهر الحق ، وبطل ما كانوا يعملون ( فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين ) [ الأعراف : 119 ] وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه ، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه ، وإنما كان حزنها وهمها لموسى .

فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة ، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا مضت أخلف موعده وقال : هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا ؟ فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات ، كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ، ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا كف ذلك أخلف موعده ، ونكث عهده .

حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلا فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين ، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة ، وأوحى الله إلى البحر : إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة ، حتى يجوز موسى ومن معه ، ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه . فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى البحر وله قصيف ، مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيا لله .

فلما تراءى الجمعان وتقاربا ، قال أصحاب موسى : إنا لمدركون ، افعل ما أمرك به ربك ، فإنه لم يكذب ولم تكذب . قال : وعدني أن إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة ، حتى أجاوزه . ثم ذكر بعد ذلك العصا فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى ، فانفرق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى ، فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم البحر ، ودخل فرعون وأصحابه ، التقى عليهم البحر كما أمر ، فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه : إنا نخاف ألا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه . فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه .

ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم : ( قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون ) [ الأعراف : 138 ، 139 ] . قد رأيتم من العبر وسمعتم ما يكفيكم . ومضى ، فأنزلهم موسى منزلا وقال أطيعوا هارون ، فإني قد استخلفته عليكم ، فإني ذاهب إلى ربي . وأجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم فيها ، فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه في ثلاثين يوما وقد صامهن ، ليلهن ونهارهن ، وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم ، فتناول موسى من نبات الأرض شيئا فمضغه ، فقال له ربه حين أتاه : لم أفطرت ؟ وهو أعلم بالذي كان ، قال : يا رب ، إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح . قال : أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب من ريح المسك ، ارجع فصم عشرا ثم ائتني . ففعل موسى ، عليه السلام ، ما أمر به ، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في الأجل ، ساءهم ذلك . وكان هارون قد خطبهم وقال : إنكم قد خرجتم من مصر ، ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع ، ولكم فيهم مثل ذلك وأنا أرى أنكم تحتسبون ما لكم عندهم ، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية ، ولسنا برادين إليهم شيئا من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا ، فحفر حفيرا ، وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير ، ثم أوقد عليه النار فأحرقه ، فقال لا يكون لنا ولا لهم .

وكان السامري من قوم يعبدون البقر ، جيران لبني إسرائيل ولم يكن من بني إسرائيل ، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا ، فقضي له أن رأى أثرا فقبض منه قبضة ، فمر بهارون ، فقال له هارون ، عليه السلام : يا سامري ، ألا تلقي ما في يدك ؟ وهو قابض عليه ، لا يراه أحد طوال ذلك ، فقال : هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ، ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد . فألقاها ، ودعا له هارون ، فقال : أريد أن يكون عجلا . فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد ، فصار عجلا أجوف . ليس فيه روح ، وله خوار .

قال ابن عباس : لا والله ، ما كان له صوت قط ، إنما كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه ، فكان ذلك الصوت من ذلك .

فتفرق بنو إسرائيل فرقا ، فقالت فرقة : يا سامري ما هذا ؟ وأنت أعلم به . قال : هذا ربكم ولكن موسى أضل الطريق . وقالت فرقة : لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى ، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأيناه ، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى . وقالت فرقة : هذا عمل الشيطان ، وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق ، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل ، وأعلنوا التكذيب به ، فقال لهم هارون : ( يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن ) [ طه : 90 ] . قالوا فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا ، هذه أربعون يوما قد مضت ؟ وقال سفهاؤهم : أخطأ ربه فهو يطلبه ويتبعه .

فلما كلم الله موسى وقال له ما قال ، أخبره بما لقي قومه من بعده ، ( فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ) [ طه : 86 ] فقال لهم ما سمعتم في القرآن ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه ، وألقى الألواح من الغضب ، ثم إنه عذر أخاه بعذره ، واستغفر له وانصرف إلى السامري فقال له : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : قبضت قبضة من أثر الرسول ، وفطنت لها وعميت عليكم فقذفتها ( وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ) [ طه : 96 ، 97 ] ولو كان إلها لم يخلص إلى ذلك منه . فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة ، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون ، فقالوا لجماعتهم : يا موسى ، سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها ، فيكفر عنا ما عملنا . فاختار موسى قومه سبعين رجلا لذلك ، لا يألو الخير خيار بني إسرائيل ، ومن لم يشرك في العجل ، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة ، فرجفت بهم الأرض ، فاستحيا نبي الله من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل فقال : ( رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ) [ الأعراف : 155 ] وفيهم من كان اطلع الله منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به ، فلذلك رجفت بهم الأرض ، فقال : ( ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) [ الأعراف : 156 ، 157 ] . فقال : يا رب ، سألتك التوبة لقومي ، فقلت : إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي ، هلا أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة ؟ فقال له : إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد ، فيقتله بالسيف ، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن . وتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون واطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها ، وفعلوا ما أمروا ، وغفر الله للقاتل والمقتول .

ثم سار بهم موسى ، عليه السلام متوجها نحو الأرض المقدسة ، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب ، فأمرهم بالذي أمر به أن يبلغهم من الوظائف ، فثقل ذلك عليهم ، وأبوا أن يقروا بها ، فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة ، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ينظرون إلى الجبل ، والكتاب بأيديهم ، وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم . ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة ، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون خلقهم خلق منكر - وذكروا من ثمارهم أمرا عجيبا من عظمها - فقالوا : يا موسى إن فيها قوما جبارين ، لا طاقة لنا بهم ، ولا ندخلها ما داموا فيها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون . قال رجلان من الذين يخافون - قيل ليزيد : هكذا قرأه ؟ قال : نعم من الجبارين ، آمنا بموسى ، وخرجا إليه ، فقالوا : نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم ، فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم ، فادخلوا عليهم الباب ، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون - ويقول أناس : إنهم من قوم موسى . فقال الذين يخافون ، بنو إسرائيل : ( قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) [ المائدة : 24 ] فأغضبوا موسى ، فدعا عليهم وسماهم فاسقين ، ولم يدع عليهم قبل ذلك ، لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم فاسقين ، فحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ، يصبحون كل يوم فيسيرون ، ليس لهم قرار ، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ ، وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربعا ، وأمر موسى فضربه بعصاه . فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، في كل ناحية ثلاث أعين ، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها ، فلا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر معهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس .

رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس يحدث هذا الحديث ، فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل ، فقال : كيف يفشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك ؟ . فغضب ابن عباس ، فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري ، فقال له : يا أبا إسحاق ، هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون ؟ الإسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني ؟ قال : إنما أفشى عليه الفرعوني ، بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد على ذلك وحضره .

هكذا رواه الإمام النسائي في السنن الكبرى ، وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما كلهم من حديث يزيد بن هارون به وهو موقوف من كلام ابن عباس ، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه ، وكأنه تلقاه ابن عباس ، رضي الله عنه مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره ، والله أعلم . وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضا .


تفسير الطبري :

قوله تعالى{إذ تمشي أختك} العامل في {إذ تمشي} {ألقيت} أو {تصنع}. ويجوز أن يكون بدلا من {إذ أوحينا} وأخته اسمها مريم {فتقول هل أدلكم على من يكفله} وذلك أنها خرجت متعرفة خبره، وكان موسى لما وهبه فرعون من امرأته طلبت له المراضع، كان لا يأخذ من أحد حتى أقبلت أخته، فأخذته ووضعته في حجرها وناولته ثديها فمصه وفرح به. فقالوا لها : تقيمين عندنا؛ فقالت : إنه لا لبن لي ولكن أدلكم على من يكفله وهم له ناصحون. قالوا : ومن هي؟. قالت : أمي. فقالوا : لها لبن؟ قالت : لبن أخي هارون. وكان هارون أكبر من موسى بسنة. وقيل بثلاث. وقيل بأربع. وذلك أن فرعون رحم بني إسرائيل فرفع عنهم القتل أربع سنين، فولد هارون فيها؛ قال ابن عباس : فجاءت الأم فقبل ثديها. فذلك قوله تعالى{فرجعناك إلى أمك} وفي مصحف أبي {فرددناك} {كي تقر عينها ولا تحزن} وروى عبدالحميد عن ابن عامر {كي تَقِر عينها} بكسر القاف. قال الجوهري : وقررت به عينا وقررت به قرة وقرورا فيهما. رجل قرير العين؛ وقد قرت عينه تقر وتقر نقيض سخنت. وأقر الله عينه أي أعطاه حتى تقر فلا تطمح إلى من هو فوقه، ويقال : حتى تبرد ولا تسخن. وللسرور دمعة باردة، وللحزن دمعة حارة. وقد تقدم هذا المعنى في {مريم}. {ولا تحزن} أي على فقدك. {وقتلت نفسا} قال ابن عباس : قتل قبطيا كافرا. قال كعب : وكان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة. في صحيح مسلم : وكان قتله خطأ؛ على ما يأتي. {فنجيناك من الغم} أي آمناك من الخوف والقتل والحبس. {وفتناك فتونا} أي اختبرناك اختبارا حتى صلحت للرسالة، وقال قتادة : بلوناك بلاء. مجاهد : أخلصناك إخلاصا. وقال ابن عباس : اختبرناك بأشياء قبل الرسالة، أولها حملته أمه في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال، ثم إلقاؤه في اليم، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم جره بلحية فرعون، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، فدرأ ذلك عنه قتل فرعون، ثم قتله القبطي وخروجه خائفا يترقب، ثم رعايته الغنم ليتدرب بها على رعاية الخلق. فيقال : إنه ند له من الغنم جدي فاتبعه أكثر النهار، وأتعبه، ثم أخذه فقبله وضمه إلى صدره، وقال له أتعبتني وأتعبت نفسك؛ ولم يغضب عليه. قال وهب بن منبه : ولهذا اتخذه الله كليما. وقد مضى في {النساء}. قوله تعالى{فلبثت سنين في أهل مدين} يريد عشر سنين أتم الأجلين. وقال وهب : لبث عند شعيب ثماني وعشرين سنة، منها عشرة مهر امرأته صفورا ابنة شعيب، وثماني عشرة أقامها عنده حتى ولد له عنده. وقوله{ثم جئت على قدر يا موسى} قال ابن عباس وقتادة وعبدالرحمن بن كيسان : يريد موافقا للنبوة والرسالة؛ لأن الأنبياء لا يبعثون إلا أبناء أربعين سنة. وقال مجاهد ومقاتل{على قدر} على وعد. وقال محمد بن كعب : ثم جئت على القدر الذي قدرت لك أنك تجيء فيه. والمعنى واحد. أي جئت الوقت الذي أردنا إرسالك فيه. وقال الشاعر : نال الخلافة أو كانت له قدرا ** كما أتى ربه موسى على قدر قوله تعالى{واصطنعتك لنفسي} قال ابن عباس : أي اصطفيتك لوحي ورسالتي. وقيل{اصطنعتك} خلقتك؛ مأخوذ من الصنعة. وقيل قويتك وعلمتك لتبلغ عبادي أمري ونهي.

التفسير الميسّر:

ومننَّا عليك حين تمشي أختك تتبعك ثم تقول لمن أخذوك: هل أدلكم على من يكفُله، ويرضعه لكم؟ فرددناك إلى أمِّك بعد ما صرتَ في أيدي فرعون؛ كي تطيب نفسها بسلامتك من الغرق والقتل، ولا تحزن على فَقْدك، وقتلت الرجل القبطي خطأ فنجيناك من غَمِّ فِعْلك وخوف القتل، وابتليناك ابتلاء، فخرجت خائفًا إلى أهل "مدين"، فمكثت سنين فيهم، ثم جئت من "مدين" في الموعد الذي قدَّرناه لإرسالك مجيئًا موافقًا لقدر الله وإرادته، والأمر كله لله تبارك وتعالى.

تفسير السعدي

فجاءت أخت موسى، فقالت لهم: { هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون }

{ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا } وهو القبطي لما دخل المدينة وقت غفلة من أهلها، وجد رجلين يقتتلان، واحد من شيعة موسى، والآخر من عدوه قبطي { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه } فدعا الله وسأله المغفرة، فغفر له، ثم فر هاربا لما سمع أن الملأ طلبوه، يريدون قتله.فنجاه الله من الغم من عقوبة الذنب، ومن القتل، { وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا } أي: اختبرناك، وبلوناك، فوجدناك مستقيما في أحوالك أو نقلناك في أحوالك، وأطوارك، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ } حين فر هاربا من فرعون وملئه، حين أرادوا قتله، فتوجه إلى مدين، ووصل إليها، وتزوج هناك، ومكث عشر سنين، أو ثمان سنين، { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } أي: جئت مجيئا قد مضى به القدر، وعلمه الله وأراده في هذا الوقت وهذا الزمان وهذا المكان، ليس مجيئك اتفاقا من غير قصد ولا تدبير منا، وهذا يدل على كمال اعتناء الله بكليمه موسى عليه السلام


تفسير البغوي

( إذ تمشي أختك ) واسمها مريم ، متعرفة خبره ، ( فتقول هل أدلكم على من يكفله ) ؟ أي : على امرأة ترضعه وتضمه إليها; وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة ، فلما قالت ذلك لهم أخته قالوا : نعم . فجاءت بالأم فقبل ثديها ، فذلك قوله تعالى :

( فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ) بلقائك ، ( ولا تحزن ) أي : لأن يذهب عنها الحزن .

( وقتلت نفسا ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان قتل قبطيا كافرا . قال كعب الأحبار : كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة ، ( فنجيناك من الغم ) أي : من غم القتل وكربه ، ( وفتناك فتونا ) قال ابن عباس رضي الله عنه : اختبرناك اختبارا . وقال الضحاك ومقاتل : ابتليناك ابتلاء . وقال مجاهد : أخلصناك إخلاصا .

وعن ابن عباس في رواية سعيد بن جبير : أن الفتون وقوعه في محنة بعد محنة خلصه الله منها ، أولها أن أمه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح الأطفال ، ثم إلقاؤه في البحر في التابوت ، ثم منعه الرضاع إلا من ثدي أمه ، ثم أخذه بلحية فرعون حتى هم بقتله ، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة ، ثم قتله القبطي ، وخروجه إلى مدين خائفا . فكان ابن عباس يقص القصة على سعيد بن جبير ، فعلى هذا معنى : ( وفتناك ) خلصناك من تلك المحن ، كما يفتن الذهب بالنار فيخلص من كل خبث فيه " والفتون " : مصدر .

( فلبثت ) فمكثت ، أي : فخرجت من مصر فلبثت ، ( سنين في أهل مدين ) يعني ترعى الأغنام عشر سنين ، ومدين بلدة شعيب عليه السلام على ثمان مراحل من مصر ، هرب إليها موسى . وقال وهب : لبث عند شعيب عليه السلام ثمانيا وعشرين سنة ، عشر سنين منها مهر ابنته " صفيرا " بنت شعيب ، وثمان عشرة سنة أقام عنده حتى ولد له .

( ثم جئت على قدر ياموسى ) قال مقاتل : على موعد ولم يكن هذا الموعد مع موسى وإنما كان موعدا في تقدير الله ، قال محمد بن كعب : جئت على القدر الذي قدرت أنك تجيء .

وقال عبد الرحمن بن كيسان : على رأس أربعين سنة ، وهو القدر الذي يوحى فيه إلى الأنبياء ، وهذا معنى قول أكثر المفسرين ، أي : على الموعد الذي وعده الله وقدره أنه يوحى إليه بالرسالة ، وهو أربعون سنة .


الإعراب:

(إِذْ) ظرف متعلق بألقيت (تَمْشِي) مضارع مرفوع بالضمة المقدرة على الياء (أُخْتُكَ) فاعل والكاف مضاف إليه والجملة مضاف إليه (فَتَقُولُ) الفاء عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها (هَلْ) حرف استفهام (أَدُلُّكُمْ) مضارع فاعله مستتر والكاف مفعول به (عَلى مَنْ) على حرف جر ومن اسم موصول وهما متعلقان بأدلكم (يَكْفُلُهُ) مضارع فاعله مستتر والهاء مفعول به والجملة لا محل لها لأنها صلة الموصول (فَرَجَعْناكَ) الفاء حرف عطف ورجعناك ماض وفاعله ومفعوله (إِلى أُمِّكَ) متعلقان برجعناك والجملة معطوفة (كَيْ) حرف ناصب (تَقَرَّ) مضارع منصوب بكي (عَيْنُها) فاعله والهاء مضاف إليه (وَلا تَحْزَنَ) الواو عاطفة ولا ناهية ومضارع منصوب والجملة معطوفة على كي تقر.

(وَقَتَلْتَ) الواو عاطفة وماض وفاعله (نَفْساً) مفعول به والجملة معطوفة (فَنَجَّيْناكَ) الفاء عاطفة وماض وفاعله ومفعوله والجملة معطوفة (مِنَ الْغَمِّ) متعلقان بنجيناك (وَفَتَنَّاكَ) الواو عاطفة وماض وفاعله ومفعوله والجملة معطوفة (فُتُوناً) مفعول مطلق (فَلَبِثْتَ) الفاء عاطفة وماض وفاعله (سِنِينَ) ظرف زمان متعلق بلبثت (فِي أَهْلِ) متعلقان بلبثت (مَدْيَنَ) مضاف إليه ممنوع من الصرف مانعه العلمية والتأنيث.

(ثُمَّ) حرف عطف (جِئْتَ) ماض وفاعله (عَلى قَدَرٍ) متعلقان بمحذوف حال من تاء الفاعل (يا) أداة نداء (مُوسى) منادى مفرد علم مبني على الضم في محل نصب مفعول به لأدعو المقدرة.

---

Traslation and Transliteration:

Ith tamshee okhtuka fataqoolu hal adullukum AAala man yakfuluhu farajaAAnaka ila ommika kay taqarra AAaynuha wala tahzana waqatalta nafsan fanajjaynaka mina alghammi wafatannaka futoonan falabithta sineena fee ahli madyana thumma jita AAala qadarin ya moosa

بيانات السورة

اسم السورة سورة طه (Ta-ha - Ta-Ha)
ترتيبها 20
عدد آياتها 135
عدد كلماتها 1354
عدد حروفها 5288
معنى اسمها (طَهَ): حَرْفَانِ لَا يَعلَمُ مَعْنَاهُمَا إِلَّا اللهُ، كَبَقِيَّةِ الْحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ فِي مُفْتَتَحِ بَعْضِ السُّوَرِ (1)
سبب تسميتها انْفِرَادُ السُّورَةِ بِمُفْتَتَحِ حَرْفَي (طَه) دُونَ غَيرِهَا مِنْ سُوَرِ القُرْآنِ؛ فَسُمِّيَتْ بِهِمَا
أسماؤها الأخرى اشتُهِرَتْ بِسُورَةِ (طَهَ)، وَتُسَمَّى سُورَةَ (مُوسَى عليه السلام)، وَسُورَةَ (الكَلِيمِ)
مقاصدها تَذْكِيرُ النَّبِيِّ ﷺ بِقِصَّتَي مُوسَى وَآدَمَ عَلَيهِمَا السَّلام تَسْلِيَةً لَهُ، وَتَقْوِيَةً لِقَلْبِهِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ
أسباب نزولها سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ، لَمْ تَصِحَّ رِوَايَةٌ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَو فِي نُزُولِ بَعْضِ آياتِهَا
فضلها مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ مِنَ القُرْآنِ، فَعَنِ ابْنِ مَسعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: فِي (بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَالكَهْفِ، وَمَرْيَمَ، وَطَهَ، وَالأنْبِيَاءِ) - «هُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ، وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي». (رَوَاهُ البُخَارِيّ)
مناسبتها مُنَاسَبَةُ أَوَّلِ سُورَةِ (طَهَ) بِآخِرِهَا: الحَدِيثُ عَنْ فَضْلِ القُرْآنِ، وَشَقَاءِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فقَالَ فِي فَاتِحَتِهَا: ﴿مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ ٢﴾، وَقَالَ فِي آخِرِهَا: ﴿وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا ...١٢٤﴾. مُنَاسَبَةُ سُورَةِ (طَهَ) لِمَا قَبلَهَا مِنْ سُورَةِ (مَرْيَمَ): لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ وَالنَّبِيَّ ﷺ فِي خَاتِمَةِ (مَرْيَمَ) بِقَولِهِ: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرۡنَٰهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلۡمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِۦ قَوۡمٗا لُّدّٗا ٩٧﴾. ذَكَرَهُمَا فِي فَاتِحَةِ (طَهَ) فَقَالَ: ﴿مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ ٢﴾.
اختر الًجزء:
1
2
3
4
5
6
7
8
9
10
11
12
13
14
15
16
17
18
19
20
21
22
23
24
25
26
27
28
29
30
اختر السورة:
1 - ﴿الفاتحة﴾
2 - ﴿البقرة﴾
3 - ﴿آل عمران﴾
4 - ﴿النساء﴾
5 - ﴿المائدة﴾
6 - ﴿الأنعام﴾
7 - ﴿الأعراف﴾
8 - ﴿الأنفال﴾
9 - ﴿التوبة﴾
10 - ﴿يونس﴾
11 - ﴿هود﴾
12 - ﴿يوسف﴾
13 - ﴿الرعد﴾
14 - ﴿إبراهيم﴾
15 - ﴿الحجر﴾
16 - ﴿النحل﴾
17 - ﴿الإسراء﴾
18 - ﴿الكهف﴾
19 - ﴿مريم﴾
20 - ﴿طه﴾
21 - ﴿الأنبياء﴾
22 - ﴿الحج﴾
23 - ﴿المؤمنون﴾
24 - ﴿النور﴾
25 - ﴿الفرقان﴾
26 - ﴿الشعراء﴾
27 - ﴿النمل﴾
28 - ﴿القصص﴾
29 - ﴿العنكبوت﴾
30 - ﴿الروم﴾
31 - ﴿لقمان﴾
32 - ﴿السجدة﴾
33 - ﴿الأحزاب﴾
34 - ﴿سبأ﴾
35 - ﴿فاطر﴾
36 - ﴿يس﴾
37 - ﴿الصافات﴾
38 - ﴿ص﴾
39 - ﴿الزمر﴾
40 - ﴿غافر﴾
41 - ﴿فصلت﴾
42 - ﴿الشورى﴾
43 - ﴿الزخرف﴾
44 - ﴿الدخان﴾
45 - ﴿الجاثية﴾
46 - ﴿الأحقاف﴾
47 - ﴿محمد﴾
48 - ﴿الفتح﴾
49 - ﴿الحجرات﴾
50 - ﴿ق﴾
51 - ﴿الذاريات﴾
52 - ﴿الطور﴾
53 - ﴿النجم﴾
54 - ﴿القمر﴾
55 - ﴿الرحمن﴾
56 - ﴿الواقعة﴾
57 - ﴿الحديد﴾
58 - ﴿المجادلة﴾
59 - ﴿الحشر﴾
60 - ﴿الممتحنة﴾
61 - ﴿الصف﴾
62 - ﴿الجمعة﴾
63 - ﴿المنافقون﴾
64 - ﴿التغابن﴾
65 - ﴿الطلاق﴾
66 - ﴿التحريم﴾
67 - ﴿الملك﴾
68 - ﴿القلم﴾
69 - ﴿الحاقة﴾
70 - ﴿المعارج﴾
71 - ﴿نوح﴾
72 - ﴿الجن﴾
73 - ﴿المزمل﴾
74 - ﴿المدثر﴾
75 - ﴿القيامة﴾
76 - ﴿الإنسان﴾
77 - ﴿المرسلات﴾
78 - ﴿النبأ﴾
79 - ﴿النازعات﴾
80 - ﴿عبس﴾
81 - ﴿التكوير﴾
82 - ﴿الانفطار﴾
83 - ﴿المطففين﴾
84 - ﴿الانشقاق﴾
85 - ﴿البروج﴾
86 - ﴿الطارق﴾
87 - ﴿الأعلى﴾
88 - ﴿الغاشية﴾
89 - ﴿الفجر﴾
90 - ﴿البلد﴾
91 - ﴿الشمس﴾
92 - ﴿الليل﴾
93 - ﴿الضحى﴾
94 - ﴿الشرح﴾
95 - ﴿التين﴾
96 - ﴿العلق﴾
97 - ﴿القدر﴾
98 - ﴿البينة﴾
99 - ﴿الزلزلة﴾
100 - ﴿العاديات﴾
101 - ﴿القارعة﴾
102 - ﴿التكاثر﴾
103 - ﴿العصر﴾
104 - ﴿الهمزة﴾
105 - ﴿الفيل﴾
106 - ﴿قريش﴾
107 - ﴿الماعون﴾
108 - ﴿الكوثر﴾
109 - ﴿الكافرون﴾
110 - ﴿النصر﴾
111 - ﴿المسد﴾
112 - ﴿الإخلاص﴾
113 - ﴿الفلق﴾
114 - ﴿الناس﴾
اختر الًصفحة:
1
2
3
4
5
6
7
8
9
10
11
12
13
14
15
16
17
18
19
20
21
22
23
24
25
26
27
28
29
30
31
32
33
34
35
36
37
38
39
40
41
42
43
44
45
46
47
48
49
50
51
52
53
54
55
56
57
58
59
60
61
62
63
64
65
66
67
68
69
70
71
72
73
74
75
76
77
78
79
80
81
82
83
84
85
86
87
88
89
90
91
92
93
94
95
96
97
98
99
100
101
102
103
104
105
106
107
108
109
110
111
112
113
114
115
116
117
118
119
120
121
122
123
124
125
126
127
128
129
130
131
132
133
134
135
136
137
138
139
140
141
142
143
144
145
146
147
148
149
150
151
152
153
154
155
156
157
158
159
160
161
162
163
164
165
166
167
168
169
170
171
172
173
174
175
176
177
178
179
180
181
182
183
184
185
186
187
188
189
190
191
192
193
194
195
196
197
198
199
200
201
202
203
204
205
206
207
208
209
210
211
212
213
214
215
216
217
218
219
220
221
222
223
224
225
226
227
228
229
230
231
232
233
234
235
236
237
238
239
240
241
242
243
244
245
246
247
248
249
250
251
252
253
254
255
256
257
258
259
260
261
262
263
264
265
266
267
268
269
270
271
272
273
274
275
276
277
278
279
280
281
282
283
284
285
286
287
288
289
290
291
292
293
294
295
296
297
298
299
300
301
302
303
304
305
306
307
308
309
310
311
312
313
314
315
316
317
318
319
320
321
322
323
324
325
326
327
328
329
330
331
332
333
334
335
336
337
338
339
340
341
342
343
344
345
346
347
348
349
350
351
352
353
354
355
356
357
358
359
360
361
362
363
364
365
366
367
368
369
370
371
372
373
374
375
376
377
378
379
380
381
382
383
384
385
386
387
388
389
390
391
392
393
394
395
396
397
398
399
400
401
402
403
404
405
406
407
408
409
410
411
412
413
414
415
416
417
418
419
420
421
422
423
424
425
426
427
428
429
430
431
432
433
434
435
436
437
438
439
440
441
442
443
444
445
446
447
448
449
450
451
452
453
454
455
456
457
458
459
460
461
462
463
464
465
466
467
468
469
470
471
472
473
474
475
476
477
478
479
480
481
482
483
484
485
486
487
488
489
490
491
492
493
494
495
496
497
498
499
500
501
502
503
504
505
506
507
508
509
510
511
512
513
514
515
516
517
518
519
520
521
522
523
524
525
526
527
528
529
530
531
532
533
534
535
536
537
538
539
540
541
542
543
544
545
546
547
548
549
550
551
552
553
554
555
556
557
558
559
560
561
562
563
564
565
566
567
568
569
570
571
572
573
574
575
576
577
578
579
580
581
582
583
584
585
586
587
588
589
590
591
592
593
594
595
596
597
598
599
600
601
602
603
604


يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!