المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة الكهف: [الآية 94]
![]() |
![]() |
![]() |
سورة الكهف | ||
![]() |
![]() |
![]() |
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
ما تميز العالم إلا بالمراتب ، وما شرف بعضه على بعضه إلا بها ، ومن علم أن الشرف للرتب لا لعينه لم يغالط نفسه في أنه أشرف من غيره ، وإن كان يقول إن هذه الرتبة أشرف من هذه الرتبة ، ولما كانت الخلافة ربوبية في الظاهر لأنه يظهر بحكم الملك ، فيتصرف في الملك بصفات سيده ظاهرا ، وإن كانت عبوديته له مشهودة في باطنه ، فلم تعم عبوديته عند رعيته الذين هم أتباعه ، وظهر ملكه بهم وباتباعهم والأخذ عنه ، فكان في مجاورتهم بالظاهر أقرب ، وبذلك المقدار يستتر من عبوديته ، لذلك كثيرا ما ينزل في الوحي على الأنبياء «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» فكانت هذه الآية دواء لهذه العلة ، وبهذا المقدار كانت أحوال الأنبياء والرسل في الدنيا البكاء والنوح ، فإنه موضع تتقى فتنته ، فقال الكامل صلّى اللّه عليه وسلم: «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» عن أمر اللّه ، قيل له : قل ، فقال ، وبهذا علمنا أنه عن أمر اللّه ، لأنه نقل الأمر إلينا كما نقل المأمور ، وكان هذا القول دواء للمرض الذي قام بمن عبد عيسى عليه السلام من أمته ، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول لنا كثيرا في هذا المقام في حق نفسه وتعليما لنا «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» فلم ير لنفسه فضلا علينا ، أي حكم البشرية فيّ حكمها فيكم ،
[إشارة: لم أمر الحق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن يقول " قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ " ]
فكان ذلك من التأديب الإلهي الذي أدب اللّه تعالى به نبيه عليه السلام فيما أوحى به إليه ،
فقال صلّى اللّه عليه وسلم : [ إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر ]
يعني لنفسه ولحق غيره ، [ وأرضى كما يرضى البشر ]
يعني لنفسه ولغيره ، ويعني أن أغضب عليهم وأرضى لنفسي [ اللهم من دعوت عليه فاجعل دعائي عليه رحمة له ورضوانا ]
ثم ذكر المرتبة وهو قوله «يُوحى إِلَيَّ» ولما كان صلّى اللّه عليه وسلم لم تؤثر فيه المراتب إذا نالها ، قال وهو في المرتبة العليا [ أنا سيد الناس ]
وفي رواية [ أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ] فنفى أن يقصد بذلك الفخر ، لأنه ذكر الرتبة التي لها الفخر الذي هو صلّى اللّه عليه وسلم مترجم عنها وناطق بلسانها ، فذكر رتبة الشفاعة والمقام المحمود ، فالفخر للرتبة ولا فخر بالذات إلا للّه وحده ، فلم تحكم فيه المرتبة ، وقال في كل وقت وهو في مرتبة الرسالة والخلافة
" إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ "، فلم تحجبه المرتبة عن معرفة نشأته ، وسبب ذلك أنه رأى لطيفته ناظرة إلى مركبها العنصري وهو متبدد فيها ، فشاهد ذاته العنصرية ، فعلم أنها تحت قوة الأفلاك العلوية ، ورأى المشاركة بينها وبين سائر الخلق الإنساني والحيواني والنبات والمعادن ، فلم ير لنفسه من حيث نشأته العنصرية فضلا على كل من تولد منها ، وأنه مثل لهم وهم أمثال له ، فقال : «إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» ثم رأى افتقاره إلى ما تقوم به نشأته من الغذاء الطبيعي كسائر المخلوقات الطبيعية ،
فعرف نفسه فقال:
[ يا أبا بكر ما أخرجك ، قال : الجوع ، قال : وأنا أخرجني الجوع ] فكشف عن حجرين قد وضعهما على بطنه يشد بهما أمعاءه -إشارة- كان عليه السلام نائب الحق ، فهو وجهه في العالم ، فكان الحق يقول له : «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» أي استتر بعبوديتك ،
ولا تظهر مكانتك عندي . واعلم أن جميع ما سوى اللّه يمكن حصرهم في الأجناس الآتية ،
وهم الملك والفلك والكوكب والطبيعة والعنصر والمعدن والنبات والحيوان والإنسان ،
وما من صنف ذكرناه من هؤلاء الأصناف إلا وقد عبد منهم أشخاص ،
فمنهم من عبد الملائكة ، ومنهم من عبد الكواكب ، ومنهم من عبد الأفلاك ،
ومنهم من عبد العناصر ، ومنهم من عبد الأحجار ،
ومنهم من عبد الأشجار ، ومنهم من عبد الحيوان ، ومنهم من عبد الجن والإنس ، فالمخلص في العبادة التي هي ذاتية له أن لا يقصد إلا من أوجده وخلقه ،
وهو اللّه تعالى ، فتخلص له هذه العبادة ولا يعامل بها أحدا ممن ذكرناه ، أي لا يراه في شيء فيذل له ، واعلم أنه ما من شيء في الكون إلا وفيه ضرر ونفع ، فاستجلب بهذه الصفة الإلهية
نفوس المحتاجين إليه لافتقارهم إلى المنفعة ودفع المضار ، فأداهم ذلك إلى عبادة الأشياء وإن لم يشعروا ، ولما علم اللّه ما أودعه في خلقه ، وما جعل في الثقلين من الحاجة إلى ما أودع اللّه في الموجودات وفي الناس بعضهم إلى بعض قال : «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ»
فذكر لقاء اللّه ليدل على حالة الرضى من غير احتمال ، كما ذكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وذلك في الجنة ، فإنها دار الرضوان ،
فما كل من لقي اللّه سعيد «فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً» أي لا يشوبه فساد ، والصالح الذي لا يدخله خلل ، فإن ظهر فيه خلل فليس بصالح ، وليس الخلل في العمل وعدم الصلاح فيه إلا الشرك ، فقال : «وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» أي لا يذل إلا اللّه لا لغيره ،
لأنه إذا لم ير شيئا سوى اللّه وأنه الواضع أسباب المضار والمنافع ، لجأ إلى اللّه في دفع ما يضره ونيل ما ينفعه من غير تعيين سبب ، ونكر «أَحَداً» فدخل تحته كل شيء له أحدية ، وعم كل ما ينطلق عليه اسم أحد ، وهو كل شيء في عالم الخلق والأمر ،
وعم الشرك الأصغر ، وهو الشرك الذي في العموم ، وهو الربوبية المستورة المنتهكة ، في مثل فعلت وصنعت وفعل فلان ولولا فلان ، فهذا هو الشرك المغفور ، فإنك إذا راجعت أصحاب هذا القول فيه رجعوا إلى اللّه تعالى ،
والشرك الذي في الخصوص ، فهم الذين يجعلون مع اللّه إلها آخر ، وهو الظلم العظيم ،
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : [ إن اللّه إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية ، فأول من يدعى به رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل اللّه ورجل كثير المال ، فيقول اللّه للقارئ : ألم أعلمك ما أنزلته على رسولي ؟
قال : بلى يا رب ، قال : فما ذا عملت فيما علمت ؟ قال : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار ، فيقول اللّه له : كذبت ، وتقول الملائكة له : كذبت ،
ويقول اللّه : إنما قرأت ليقال فلان قارئ فقد قيل ذلك ، ويؤتى بصاحب المال فيقول اللّه له : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال : بلى يا رب ، قال : فما ذا عملت فيما آتيتك ؟
قال : كنت أصل الرحم وأتصدق ، فيقول اللّه له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ،
ويقول اللّه له : بل أردت أن يقال فلان جواد فقيل ذلك ، ويؤتى بالذي قتل في سبيل اللّه فيقول اللّه : فيما ذا قتلت ؟
فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت ، فيقول اللّه له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ، ويقول اللّه له : بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك ، ثم ضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على ركبة أبي هريرة وقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول من يسعر
بهم النار يوم القيامة ]
فكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث يغشى عليه ،
يقول اللّه تعالى :" فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً "
وجاء في الحديث الغريب الصحيح [ من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو للذي أشرك ] فنكر تعالى العمل وما خص عملا من عمل ، والضمير في فيه يعود على العمل ، والضمير في منه يعود على الغير الذي هو الشريك ، وضمير هو يعود على المشرك - تحقيق إخلاص العمل للّه من الشرك
[ - الإخلاص في العمل ]
-الإخلاص في العمل -هو أن تقف كشفا على أن العامل ذلك العمل هو اللّه ، كما هو في نفس الأمر ، أي عمل كان ذلك العمل ، مذموما أو محمودا أو ما كان ، فذلك حكم اللّه تعالى فيه ما هو عين العمل ، لذلك فإن اللّه لا يتبرأ من العمل فإنه العامل بلا شك ، فإخلاص العمل للّه هو نصيب اللّه من العمل ، لأن الصورة الظاهرة في العمل إنما هي في الشخص الذي أظهر اللّه فيه عمله ، فيلتبس الأمر للصورة الظاهرة ، والصورة الظاهرة لا تشك أن العمل بالشهود ظاهر منها ، فهي إضافة صحيحة ، فإن البصر لا يقع إلا على آلة وهي مصرّفة لأمر آخر ، لا يقع الحس الظاهر عليه ، بدليل الموت ووجود الآلة وسلب العمل ، فإذن الآلة ما هي العامل ، والحس ما أدرك إلا الآلة ، فكما علم الحاكم أن وراء المحسوس أمرا هو العامل بهذه الآلة والمصرف لها ، المعبر عنه عند علماء النظر العقلي بالنفس العاملة الناطقة والحيوانية ، فقد انتقلوا إلى معنى ليس هو من مدركات الحس ،
فكذلك إدراك أهل الكشف والشهود - في الجمع والوجود - في النفس الناطقة ما أدرك أهل النظر في الآلة المحسوسة سواء ، فعرفوا أن ما وراء النفس الناطقة هو العامل ، وهو مسمى اللّه ، فالنفس في هذا العمل كالآلة المحسوسة سواء ، ومتى لم يدرك هذا الإدراك فلا يتصف عندنا بأنه أخلص في عمله جملة واحدة ، مع ثبوت الآلات وتصرفها لظهور صورة العمل من العامل ،
فالعالم كله آلات الحق فيما يصدر عنه من الأفعال ،
قال صلّى اللّه عليه وسلم فيما صح عنه : [ أتدرون ما حق اللّه على العباد ، قالو :اللّه ورسوله أعلم ، قال : إن حق اللّه على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، ثم قال : أتدرون ما حقهم عليه إذا فعلوا ذلك ، أن يدخلهم الجنة ]
فنكر صلّى اللّه عليه وسلم بقوله شيئا ليدخل فيه جميع الأشياء ، وهو قوله تعالى «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً "
- وجه آخر -في تفسير قوله تعالى في هذه الآية ،
كأنه تعالى يقول : إن الحق لا يعبد من حيث أحديته ، لأن الأحدية تنافي وجود العابد ، فكأنه يقول : لا يعبد إلا الرب من حيث ربوبيته ، فإن الرب أوجدك ، فتعلق به وتذلل له ولا تشرك الأحدية مع الربوبية في العبادة ، فتتذلل لها كما تتذلل للربوبية ،
فإن الأحدية لا تعرفك ولا تقبلك ، فيكون تعبد في غير معبد ، وتطمع في غير مطمع ، وتعمل في غير معمل ، وهي عبادة الجاهل ، فنفى عبادة العابدين من التعلق بالأحدية ، فإن الأحدية لا تثبت إلا للّه مطلقا ، وإنما ما سوى اللّه فلا أحدية له مطلقا ،
فهذا هو المفهوم من هذه الآية عندنا من حيث طريقنا في تفسير القرآن ، ويأخذ أهل الرسوم في ذلك قسطهم أيضا تفسيرا للمعنى ، فيحملون الأحد المذكور على ما اتخذوه من الشركاء ، وهو تفسير صحيح أيضا ، فالقرآن هو البحر الذي لا ساحل له ، إذ كان المنسوب إليه يقصد به جميع ما يطلبه الكلام من المعاني بخلاف كلام المخلوقين .
(19) سورة مريم مكيّة
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
------------
(110) الفتوحات ج 3 / 225 ، 50 - ج 1 / 664 - ج 3 / 225 ، 191 ، 337 ، 23 ، 225 ، 23 - كتاب النجاة - كتاب المشاهد - الفتوحات ج 2 / 221">221 - ج 3 / 478 ، 355 - ج 1 / 221">221 - ج 3 / 478 ، 355 - ج 4 / 536 - ج 2 / 221">221 - ج 3 / 477 - ح2 / 581تفسير ابن كثير:
( قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا ) قال ابن جريج عن عطاء ، عن ابن عباس : أجرا عظيما ، يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالا يعطونه إياه ، حتى يجعل بينهم وبينهم سدا .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
{ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ْ} بالقتل وأخذ الأموال وغير ذلك. { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ْ} أي جعلا { عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ْ} ودل ذلك على عدم اقتدارهم بأنفسهم على بنيان السد، وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه، فبذلوا له أجرة، ليفعل ذلك، وذكروا له السبب الداعي، وهو: إفسادهم في الأرض، فلم يكن ذو القرنين ذا طمع، ولا رغبة في الدنيا، ولا تاركا لإصلاح أحوال الرعية، بل كان قصده الإصلاح، فلذلك أجاب طلبتهم لما فيها من المصلحة، ولم يأخذ منهم أجرة، وشكر ربه على تمكينه واقتداره
تفسير البغوي
( قالوا يا ذا القرنين ) فإن قيل : كيف قالوا ذلك وهم لا يفقهون؟
قيل : كلم عنهم مترجم ، دليله : قراءة ابن مسعود : لا يكادون يفقهون قولا قال الذين من دونهم يا ذا القرنين .
( إن يأجوج ومأجوج ) قرأهما عاصم بهمزتين [ وكذلك في الأنبياء ، " فتحت يأجوج ومأجوج " ] والآخرون بغير همز [ في السورتين ] وهما لغتان أصلهما من أجيج النار وهو ضوءها وشررها شبهوا به لكثرتهم وشدتهم .
وقيل : بالهمزة من شدة أجيج النار وبترك الهمز اسمان أعجميان مثل : هاروت وماروت ، وهم من أولاد يافث بن نوح .
قال الضحاك : هم جيل من الترك . قال السدي : الترك سرية من يأجوج ومأجوج ، خرجت فضرب ذو القرنين السد فبقيت خارجه ، فجميع الترك منهم . وعن قتادة : أنهم اثنان وعشرون قبيلة ، بنى ذو القرنين السد على إحدى وعشرين قبيلة فبقيت قبيلة واحدة فهم الترك سموا الترك لأنهم تركوا خارجين .
قال أهل التواريخ : أولاد نوح ثلاثة سام وحام ويافث ، فسام أبو العرب والعجم والروم ، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة ، ويافث أبو الترك والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج ، قال ابن عباس في رواية عطاء : هم عشرة أجزاء ، وولد آدم كلهم جزء . روي عن حذيفة مرفوعا : إن يأجوج أمة ومأجوج أمة ، كل أمة أربعمائة ألف أمة لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح وهم من ولد آدم يسيرون إلى خراب الدنيا . وقيل : هم ثلاثة أصناف ، صنف منهم أمثال الأرز شجر بالشام طوله عشرون ومائة ذراع في السماء ، وصنف منهم عرضه وطوله سواء ، عشرون ومائة ذراع ، وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد ، وصنف منهم يفترش أحدهم إحدى أذنيه ويلتحف الأخرى ، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه ، مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشارق وبحيرة طبرية .
وعن علي أنه قال : منهم من طوله شبر ومنهم من هو مفرط في الطول .
وقال كعب : هم نادرة في ولد آدم وذلك أن آدم احتلم ذات يوم وامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم يتصلون بنا من جهة الأب دون الأم .
وذكر وهب بن منبه : أن ذا القرنين كان رجلا من الروم ابن عجوز ، فلما بلغ كان عبدا صالحا . قال الله له : إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم ، منهم أمتان بينهما طول الأرض : إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها ناسك ، والأخرى عند مطلعها يقال لها منسك ، وأمتان بينهما عرض الأرض : إحداهما في القطر الأيمن يقال لها هاويل ، والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها تاويل ، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج فقال ذو القرنين : بأي قوة أكابرهم؟ وبأي جمع أكاثرهم؟ وبأي لسان أناطقهم؟ قال الله عز وجل : إني سأطوفك وأبسط لك لسانك وأشد عضدك ، فلا يهولنك شيء ، وألبسك الهيبة ، فلا يروعك شيء ، وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك .
فانطلق حتى أتى مغرب الشمس فوجد جمعا وعددا لا يحصيه إلا الله ، فكابرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد فدعاهم إلى الله وعبادته؛ فمنهم من آمن ومنهم من صد عنه ، فعمد إلى الذين تولوا عنه فأدخل عليهم الظلمة فدخلت في أجوافهم وبيوتهم فدخلوا في دعوته فجند من أهل المغرب جندا عظيما فانطلق يقودهم والظلمة تسوقهم حتى أتى هاويل فعمل فيهم كعمله في ناسك ، ثم مضى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس فعمل فيها وجند منها جنودا كفعله في الأمتين ثم أخذ ناحية الأرض اليسرى فأتى تاويل فعمل فيها كعمله فيما قبلها ، ثم عمد إلى الأمم التي في وسط الأرض ، فلما دنا مما يلي منقطع الترك نحو المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس : يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقا أشباه البهائم يفترسون الدواب والوحوش لهم أنياب وأضراس كالسباع يأكلون الحيات والعقارب وكل ذي روح خلق في الأرض وليس يزداد خلق كزيادتهم ولا شك أنهم سيملئون الأرض ويظهرون علينا ويفسدون فيها ، فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ؟ قال : ما مكني فيه ربي خير قال : أعدوا إلي الصخور والحديد والنحاس حتى أعلم علمهم .
فانطلق حتى توسط بلادهم فوجدهم على مقدار واحد يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا لهم مخاليب كالأظفار في أيدينا وأنياب وأضراس كالسباع ولهم هدب من الشعر في أجسادهم ما يواريهم ويتقون به من الحر والبرد ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان يفترش إحداهما ويلتحف بالأخرى يصيف في إحداهما ويشتو في الأخرى يتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا ، فلما عاين ذلك ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين فقاس ما بينهما فحفر له الأساس حتى بلغ الماء وجعل حشوه الصخر وطينه النحاس؛ يذاب فيصب عليه فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض .
قوله تعالى : ( قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ) قال الكلبي : فسادهم أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرضهم ، فلا يدعون فيها شيئا أخضر إلا أكلوه ، ولا شيئا يابسا إلا احتملوا وأدخلوه أرضهم وقد لقوا منهم أذى شديدا وقتلا .
وقيل : فسادهم أنهم كانوا يأكلون الناس .
وقيل : معناه أنهم سيفسدون في الأرض عند خروجهم .
( فهل نجعل لك خرجا ) قرأ حمزة والكسائي " خراجا " بالألف وقرأ الآخرون ( خرجا ) بغير ألف وهما لغتان بمعنى واحد أي جعلا وأجرا من أموالنا .
وقال أبو عمرو : " الخرج " : ما تبرعت به و " الخراج " : ما لزمك أداؤه . وقيل : " الخراج " : على الأرض و " الخرج " : على الرقاب . يقال : أد خرج رأسك وخراج مدينتك .
( على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ) أي حاجزا فلا يصلون إلينا .
الإعراب:
(قالُوا) ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة والواو فاعل (يا ذَا) يا أداة نداء وذا منادى منصوب وعلامة نصبه الألف لأنه من الأسماء الخمسة (الْقَرْنَيْنِ) مضاف إليه مجرور بالياء لأنه مثنى (إِنَّ) حرف مشبه بالفعل (يَأْجُوجَ) اسمها (وَمَأْجُوجَ) اسم معطوف على يأجوج (مُفْسِدُونَ) خبر إن مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم (فِي الْأَرْضِ) متعلقان بمفسدون وجملة النداء وما بعدها مقول القول (فَهَلْ) الفاء عاطفة (هل) حرف استفهام (نَجْعَلُ) مضارع فاعله مستتر (لَكَ) متعلقان بنجعل (خَرْجاً) مفعول به والجملة معطوفة (عَلى) حرف جر (إِنَّ) حرف ناصب (تَجْعَلَ) مضارع منصوب بأن فاعله مستتر وعلى وما بعدها متعلقان بتجعل (بَيْنَنا) ظرف مكان متعلق بتجعل ونا ضمير متصل في محل جر بالإضافة (وَبَيْنَهُمْ) معطوف على بيننا (سَدًّا) مفعول به