المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة البقرة: [الآية 168]
![]() |
![]() |
![]() |
سورة البقرة | ||
![]() |
![]() |
![]() |
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
أصل التكاليف مشتق من الكلف وهي المشقات «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» وهو ما آتاها من التمكن الذي هو وسعها ، فقد خلق سبحانه لنا التمكن من فعل بعض الأعمال ، نجد ذلك من نفوسنا ولا ننكره ، وهي الحركة الاختيارية ، كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض الأفعال الظاهرة فينا ، ونجد ذلك من نفوسنا ، كحركة المرتعش الذي لا اختيار للمرتعش فيها ، وبذلك القدر من التمكن الذي يجده الإنسان في نفسه صح أن يكون مكلفا ، ولا يحقق الإنسان بعقله لما ذا يرجع ذلك التمكن ، هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا ؟ وإن كان مجبورا في اختياره ، ولا يمكن رفع الخلاف في هذه المسألة ، فإنها من المسائل المعقولة ولا يعرف الحق فيها إلا بالكشف ، وإذا بذلت النفس الوسع في طاعة اللّه لم يقم عليها حجة ،
فإن اللّه أجلّ أن يكلف نفسا إلا وسعها ، ولذلك كان الاجتهاد في الفروع والأصول «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» لما كانت النفوس ولاة الحق على الجوارح ، والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ، مطيعة بكل وجه ، والنفوس ليست كذلك ، فإذا عملت لغير عبادة لا يقبل العمل من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ، لكن من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو من جارحة مخصوصة ، فإنها تجزى به تلك الجارحة ، فيقبل العمل لمن ظهر منه ولا يعود منه على النفس الآمرة به للجوارح شيء إذا كان العمل خيرا بالصورة كصلاة المرائي والمنافق وجميع ما يظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم تقصد به النفس عبادة ، وأما أعمال الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ، والجوارح لا تجزى بها لأنها ليس في قوتها الامتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ، فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها ، فإن جارت النفوس فعليها ، وللجوارح رفع الحرج ، بل لهم الخير الأتم ، وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ، لذلك قال تعالى : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فميز اللّه بين الكسب والاكتساب باللام وعلى ، وهذه الآية بشرى من اللّه حيث جعل المخالفة اكتسابا والطاعة كسبا ، فقال : «لَها ما كَسَبَتْ» فأوجبه لها .
وقال في المعصية والمخالفة : «وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فما أوجب لها الأخذ بما اكتسبته ، فالاكتساب ما هو حق لها فتستحقه ، فتستحق الكسب ولا تستحق الاكتساب ، والحق لا يعامل إلا بالاستحقاق ، والعفو من اللّه يحكم على الأخذ بالجريمة «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» اعلم أن الرحمة أبطنها اللّه في النسيان الموجود في العالم ، وأنه لو لم يكن لعظم الأمر وشق ، وفيما يقع فيه التذكر كفاية ، وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين اللّه في موطن التكليف ، إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم اللّه فلا بد من وقوعها من العبد ضرورة ، فلو وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من اللّه حيث يشهده ويراه ، والقدر حاكم بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم:
إن اللّه إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، فلا يؤاخذهم اللّه به في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الآخرة فمجمع عليه من الكل ، وأما في الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب ، واختلفوا في الحكم ، وكذلك في الخطأ على قدر ما شرع الشارع في
أشخاص المسائل ، مثل الإفطار ناسيا في رمضان وغير ذلك من المسائل ، فإن اللّه تعالى الذي شرع المعصية والطاعة وبيّن حكمهما ، رفع حكم الأخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» وهذا تعليم من الحق لنا أن نسأله في أن لا يقع منه في المستقبل ما لم يقع في الحال ، «وَاعْفُ عَنَّا» أي كثر خيرك لنا وقلل بلاءك عنا ، أي قلل ما ينبغي أن يقلل وكثر ما ينبغي أن يكثر ، فإن العفو من الأضداد يطلق بإزاء الكثرة والقلة ، وليس إلا عفوك عن خطايانا التي طلبنا منك أن تسترنا عنها حتى لا تصيبنا ، وهو قولنا : «وَاغْفِرْ لَنا» أي استرنا من المخالفات حتى لا تعرف مكاننا فتقصدنا «وَارْحَمْنا» برحمة الامتنان ورحمة الوجوب ، أي برحمة الاختصاص.
------------
(286) التنزلات الموصلية - الفتوحات ج 1 / 341 - ج 2 / 381 - ج 3 / 348 ، 123 ، 511 - ج 2 / 535 ، 684 - ج 3 / 381 - ج 1 / 435 ، 434تفسير ابن كثير:
ما بين تعالى أنه لا إله إلا هو ، وأنه المستقل بالخلق ، شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه ، فذكر [ ذلك ] في مقام الامتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبا ، أي : مستطابا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول ، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان ، وهي : طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها مما زينه لهم في جاهليتهم ، كما في حديث عياض بن حمار الذي في صحيح مسلم ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول الله تعالى : إن كل ما أمنحه عبادي فهو لهم حلال " وفيه : " وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " .
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا محمد بن عيسى بن شيبة المصري ، حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الاحتياطي ، حدثنا أبو عبد الله الجوزجاني رفيق إبراهيم بن أدهم حدثنا ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم : ( ياأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ) فقام سعد بن أبي وقاص ، فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة ، فقال . " يا سعد ، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ، والذي نفس محمد بيده ، إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما ، وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به " .
وقوله : ( إنه لكم عدو مبين ) تنفير عنه وتحذير منه ، كما قال : ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) [ فاطر : 6 ] وقال تعالى : ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ) [ الكهف : 50 ] .
وقال قتادة ، والسدي في قوله : ( ولا تتبعوا خطوات الشيطان ) كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان .
وقال عكرمة : هي نزغات الشيطان ، وقال مجاهد : خطاه ، أو قال : خطاياه .
وقال أبو مجلز : هي النذور في المعاصي .
وقال الشعبي : نذر رجل أن ينحر ابنه فأفتاه مسروق بذبح كبش . وقال : هذا من خطوات الشيطان .
وقال أبو الضحى ، عن مسروق : أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح ، فجعل يأكل ، فاعتزل رجل من القوم ، فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم . فقال : لا أريده . فقال : أصائم أنت ؟ قال : لا . قال : فما شأنك ؟ قال : حرمت أن آكل ضرعا أبدا . فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان ، فاطعم وكفر عن يمينك .
رواه ابن أبي حاتم ، وقال أيضا :
حدثنا أبي ، حدثنا حسان بن عبد الله المصري ، عن سليمان التيمي ، عن أبي رافع ، قال : غضبت على امرأتي ، فقالت : هي يوما يهودية ويوما نصرانية ، وكل مملوك لها حر ، إن لم تطلق امرأتك . فأتيت عبد الله بن عمر فقال : إنما هذه من خطوات الشيطان . وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة ، وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة . وأتيت عاصما وابن عمر فقالا مثل ذلك .
وقال عبد بن حميد : حدثنا أبو نعيم عن شريك ، عن عبد الكريم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ما كان من يمين أو نذر في غضب ، فهو من خطوات الشيطان ، وكفارته كفارة يمين .
[ وقال سعيد بن داود في تفسيره : حدثنا عبادة بن عباد المهلبي عن عاصم الأحول ، عن عكرمة في رجل قال لغلامه : إن لم أجلدك مائة سوط فامرأته طالق ، قال : لا يجلد غلامه ، ولا تطلق امرأته ، هذا من خطوات الشيطان ] .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
هذا خطاب للناس كلهم, مؤمنهم وكافرهم، فامتن عليهم بأن أمرهم أن يأكلوا من جميع ما في الأرض، من حبوب, وثمار, وفواكه, وحيوانات, حالة كونها { حَلَالًا } أي: محللا لكم تناوله، ليس بغصب ولا سرقة, ولا محصلا بمعاملة محرمة أو على وجه محرم، أو معينا على محرم. { طَيِّبًا } أي: ليس بخبيث, كالميتة والدم, ولحم الخنزير, والخبائث كلها، ففي هذه الآية, دليل على أن الأصل في الأعيان الإباحة، أكلا وانتفاعا, وأن المحرم نوعان: إما محرم لذاته, وهو الخبيث الذي هو ضد الطيب، وإما محرم لما عرض له, وهو المحرم لتعلق حق الله, أو حق عباده به, وهو ضد الحلال. وفيه دليل على أن الأكل بقدر ما يقيم البنية واجب, يأثم تاركه لظاهر الأمر، ولما أمرهم باتباع ما أمرهم به - إذ هو عين صلاحهم - نهاهم عن اتباع { خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي: طرقه التي يأمر بها, وهي جميع المعاصي من كفر, وفسوق, وظلم، ويدخل في ذلك تحريم السوائب, والحام, ونحو ذلك، ويدخل فيه أيضا تناول المأكولات المحرمة، { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } أي: ظاهر العداوة, فلا يريد بأمركم إلا غشكم, وأن تكونوا من أصحاب السعير،
تفسير البغوي
قوله تعالى: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة وبني مدلج فيما حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
فالحلال ما أحله الشرع طيباً، قيل: ما يستطاب ويستلذ، والمسلم يستطيب الحلال ويعاف الحرام، وقيل: الطيب الطاهر.
{ولا تتبعوا خطوات الشيطان} قرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي وحفص ويعقوب بضم الطاء والباقون بسكونها.
وخطوات الشيطان: آثاره وزلاته، وقيل: هي النذر في المعاصي. وقال أبو عبيدة: "هي المحقرات من الذنوب"، وقال الزجاج: "طرقه".
{إنه لكم عدو مبين} بين العداوة، وقيل: مظهر العداوة، وقد أظهر عداوته بإبائه السجود لآدم وغروره إياه حتى أخرجه من الجنة.
(وأبان) يكون لازما ومتعديا.
الإعراب:
(يا أَيُّهَا) يا أداة نداء أي منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب والهاء للتنبيه.
(النَّاسُ) بدل من أي.
(كُلُوا) فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل.
(مِمَّا) من وما الموصولية وهما جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.
(فِي الْأَرْضِ) متعلقان بمحذوف صلة الموصول.
(حَلالًا) حال من ما أو مفعول به.
(طَيِّبًا) صفة.
(وَلا) الواو عاطفة لا ناهية جازمة.
(تَتَّبِعُوا) فعل مضارع مجزوم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل.
(خُطُواتِ) مفعول به منصوب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم.
(الشَّيْطانِ) مضاف إليه. والجملة معطوفة.
(إِنَّهُ) إن واسمها.
(لَكُمْ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لعدو لأنه تقدم عليه.
(عَدُوٌّ) خبر.
(مُبِينٌ) صفة لعدو. وجملة: (إنه لكم) تعليلية لا محل لها.