المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة الأنفال: [الآية 7]
![]() |
![]() |
![]() |
سورة الأنفال | ||
![]() |
![]() |
![]() |
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
«وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ» فأمر بصلة الأرحام - من باب الإشارة - أمر سبحانه بصلة الأرحام ، وهو تعالى أولى بهذه الصفة منا ، فلا بد أن يكون للرحم وصولا ، فإنها شجنة من الرحمن ، وقد وصلنا اللّه بلا شك من حيث أنه رحم لنا ، فهو الرزاق ذو القوة المتين ، المنعم على أي حالة كنا ، من طاعة أمره أو معصيته ، وموافقة أو مخالفة ، فإنه لا يقطع صلة الرحم من جانبه وإن انقطعت عنه من جانبنا لجهلنا ، فأينما كان الخلق فالحق يصحبه من حيث اسمه الرحمن ، لأن الرحم شجنة من الرحمن ، وجميع الناس رحم ،
والقرابة قرابتان :
قرابة الدين وقرابة الطين ،
فمن جمع بين القرابتين فهو أولى بالصلة ، وإن انفرد أحدهما بالدين والآخر بالطين فتقدم قرابة الدين على قرابة الطين ، وأفضل الصلات في الأرحام صلة الأقرب فالأقرب ، وتنقطع الأرحام بالموت ولا ينقطع الرحم المنسوبة إلى الحق ، فإنه معنا حيثما كن .
(9) سورة التوبة مدنيّة
اختلف الناس في سورة التوبة ، هل هي سورة مستقلة كسائر سور القرآن ؟
أو هل هي وسورة الأنفال سورة واحدة ؟
فإنهم كانوا لا يعرفون كمال السورة إلا بالفصل بالبسملة ، ولم يجئ هنا ، فدل أنها من سورة الأنفال وهو الأوجه
. وإن كان لترك البسملة وجه ، وهو عدم المناسبة بين الرحمة والتبري ، فإن بسملة سورة براءة هي التي في النمل ، والحق تعالى إذا وهب شيئا لم يرجع فيه ولا يرده إلى العدم ، فلما خرجت رحمة براءة وهي البسملة ، حكم التبري من أهلها برفع الرحمة عنهم ، وأعطيت هذه البسملة للبهائم التي آمنت بسليمان عليه السلام ، وهي لا يلزمها إيمان إلا برسولها ، فلما عرفت قدر سليمان وآمنت به أعطيت من الرحمة الإنسانية حظا ، وهي بسم اللّه الرحمن الرحيم الذي سلب عن المشركين . ولكن ما لهذا الوجه تلك القوة بل هو وجه ضعيف ، وسبب ضعفه أنه في الاسم اللّه المنعوت بجميع الأسماء ما هو اسم خاص يقتضي المؤاخذة ، والبراءة إنما هي من الشريك ، وإذا تبرأ من المشرك فلكونه مشركا ، لأن متعلقه العدم ، فإن الخالق لا يتبرأ من المخلوق ، ولو تبرأ منه من كان يحفظ عليه وجوده ، ولا وجود للشريك ، فالشريك معدوم ، فلا شركة في نفس الأمر ، فإذا صحت البراءة من الشريك فهي صفة تنزيه وتبرئة للّه من الشريك ، وللرسول من اعتقاد الجهل .
ووجه آخر في ضعف هذا التأويل الذي ذكرناه وهو عدم المناسبة بين الرحمة والتبري ، وهو أن البسملة موجودة في كل سورة أولها (وَيْلٌ) *وأين الرحمة من الويل ؟
ولهذا كان للقراء في مثل هذه السورة مذهب مستحسن فيمن يثبت البسملة من القراء ، وفيمن يتركها كقراءة حمزة ، وفيمن يخير فيها كقراءة ورش ، والبسملة إثباتها عنده أرجح ، فأثبتناها عند قراءتنا بحرف حمزة في هذين الموضعين لما فيهما من قبيح الوصل بالقراءة ،
وهو أن يقول (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِويل) فبسملوا هنا ، وأما مذهبنا فيه فهو أن يقف على آخر السورة ويقف على آخر البسملة ، ويبتدئ بالسورة من غير وصل .
والخلاف في سورة التوبة أنها والأنفال سورة واحدة حيث لم يفصل بينهما بالبسملة خلاف منقول بين علماء هذا الشأن من الصحابة ، ولما علم اللّه ما يجري من الخلاف في هذه الأمة في حذف البسملة في سورة براءة ، فمن ذهب إلى أنها سورة مستقلة وكان القرآن عنده مائة وثلاث
عشرة سورة فيحتاج إلى مائة وثلاث عشرة بسملة ، أظهر لهم في سورة النمل بسملة ليكمل العدد ، وجاء بها كما جاء بها في أوائل السور بعينها ، فإن لغة سليمان عليه السلام لم تكن عربية ،
وإنما كانت أخرى في كتب لغة هذا اللفظ في كتابه ، وإنما كتب لفظة بلغته يقتضي معناها باللسان العربي إذا عبر عنها بسم اللّه الرحمن الرحيم ، وأتى بها محذوفة الألف كما جاءت في أوائل السور ، ليعلم أن المقصود بها هو المقصود بها في أوائل السور ، ولم يعمل ذلك في (بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها) و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فأثبت الألف هناك ليفرق بين اسم البسملة وغيرها ، ولهذا تتضمن سورة التوبة من صفات الرحمة والتنزل الإلهي كثيرا ، فإن فيها شراء اللّه نفوس المؤمنين منهم بأن لهم الجنة وأي تنزل أعظم من أن يشتري السيد ملكه من عبده ؟
وهل يكون في الرحمة أبلغ من هذا ؟ فلا بد أن تكون التوبة والأنفال سورة واحدة ، أو تكون بسملة النمل السليمانية لسورة التوبة ، ثم انظر في اسمها ، فإن من يجعلها سورة على حدة منفصلة عن سورة الأنفال سماها سورة التوبة ،
وهو الرجعة الإلهية على العباد بالرحمة والعطف ، فإن الرجعة الإلهية لا تكون إلا بالرحمة ، لا يرجع على عباده بغيرها ، فإن كانت الرجعة في الدنيا ردّهم بها إليه ، وإن كانت في الآخرة فتكون رجعتهم مقدمة على رجعته ،
لأن الموطن يقتضي ذلك ، فإن كل من حضر من الخلق في ذلك المشهد سقط ورجع بالضرورة إلى ربه ، فيرجع اللّه إليهم وعليهم ، فمنهم من يرجع اللّه عليه بالرحمة في القيامة ومنازلها ، ومنهم من يرجع عليه بالرحمة بعد دخول النار ،
وذلك بحسب ما تعطيه الأحوال ، فالتوبة تطلب الرحمة ما تطلب التبري ، وإن ابتدأ عزّ وجل بالتبري فقد ختم بآية لم يأت بها ولا وجدت إلا عند من جعل اللّه شهادته شهادة رجلين ،
فإن كنت تعقل علمت ما في هذه السورة من الرحمة المدرجة ، ولا سيما في قوله تعالى : (ومنهم) ومنهم ، وذلك كله رحمة بنا لنحذر الوقوع فيه ، والاتصاف بتلك الصفات ، فإن القرآن علينا نزل ، فلم تتضمن سورة من القرآن في حقنا رحمة أعظم من هذه السورة ، لأنه كثر من الأمور التي ينبغي أن يتقيها المؤمن ويجتنبها ، فلو لم يعرفنا الحق تعالى بها ، وقعنا فيها ولا نشعر ، فهي سورة رحمة للمؤمنين .
كان علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه نائب محمد صلّى اللّه عليه وسلم في تلاوة سورة براءة على أهل مكة ، وقد كان بعث بها أبا بكر ثم رجع عن ذلك فقال : لا يبلغ عني القرآن إلا رجل
من أهل بيتي ، فدعا بعلي فأمره فلحق أبا بكر ، فلما وصل إلى مكة حج أبو بكر بالناس وبلغ عليّ إلى الناس سورة براءة ، وتلاها عليهم نيابة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وهذا مما يدلك على صحة خلافة أبي بكر ومنزلة علي رضي اللّه عنهما .
------------
(75) الفتوحات ج 3 / 531تفسير ابن كثير:
وقال الإمام أحمد - رحمه الله - : حدثنا يحيى بن أبي بكير وعبد الرزاق قالا حدثنا إسرائيل ، عن سمال ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغ من بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه العباس بن عبد المطلب - قال عبد الرزاق : وهو أسير في وثاقه - ثم اتفقا : إنه لا يصلح لك ، قال : ولم ؟ قال : لأن الله - عز وجل - إنما وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك .
إسناد جيد ، ولم يخرجه .
ومعنى قوله تعالى ( وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) أي : يحبون أن الطائفة التي لا حد لها ولا منعة ولا قتال ، تكون لهم وهي العير ( ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ) أي : هو يريد أن يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال ، ليظفركم بهم ويظهركم عليهم ، ويظهر دينه ، ويرفع كلمة الإسلام ، ويجعله غالبا على الأديان ، وهو أعلم بعواقب الأمور ، وهو الذي دبركم بحسن تدبيره ، وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم ، كما قال تعالى : ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم [ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ] [ البقرة : 216 ] ) .
وقال محمد بن إسحاق - رحمه الله - : حدثني محمد بن مسلم الزهري ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وعبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا ، عن عبد الله بن عباس - كل قد حدثني بعض هذا الحديث ، فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر - قالوا : لما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم ، وقال : هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس ، فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقى حربا ، وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ، ويسأل من لقي من الركبان ، تخوفا على أمر الناس ، حتى أصاب خبرا من بعض الركبان : أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك ، فحذر عند ذلك ، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى أهل مكة ، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه ، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة ، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه حتى بلغ واديا يقال له " ذفران " ، فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل ، وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس ، وأخبرهم عن قريش ، فقام أبو بكر - رضي الله عنه - فقال ، فأحسن ، ثم قام عمر - رضي الله عنه - فقال ، فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، امض لما أمرك الله به ، فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ( فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) [ المائدة : 24 ] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى " برك الغماد " - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرا ، ودعا له بخير ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أشيروا علي أيها الناس - وإنما يريد الأنصار - وذلك أنهم كانوا عدد الناس ، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله ، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذممنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة ، من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم ، فلما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل قال : فقال : فقد آمنا بك ، وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت . فوالذي بعثك بالحق ، إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما يتخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء ، ولعل الله [ أن ] يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله . فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول سعد ، ونشطه ذلك ، ثم قال : سيروا على بركة الله وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم .
وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا ، وكذلك قال السدي ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد من علماء السلف والخلف ، اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحاق .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
تفسير الآيات من 5 حتى 8 : قدم تعالى - أمام هذه الغزوة الكبرى المباركة - الصفات التي على المؤمنين أن يقوموا بها، لأن من قام بها استقامت أحواله وصلحت أعماله، التي من أكبرها الجهاد في سبيله. فكما أن إيمانهم هو الإيمان الحقيقي، وجزاءهم هو الحق الذي وعدهم اللّه به،.كذلك أخرج اللّه رسوله صلى الله عليه وسلم من بيته إلى لقاء المشركين في بدر بالحق الذي يحبه اللّه تعالى، وقد قدره وقضاه. وإن كان المؤمنون لم يخطر ببالهم في ذلك الخروج أنه يكون بينهم وبين عدوهم قتال. فحين تبين لهم أن ذلك واقع، جعل فريق من المؤمنين يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، ويكرهون لقاء عدوهم، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. والحال أن هذا لا ينبغي منهم، خصوصا بعد ما تبين لهم أن خروجهم بالحق، ومما أمر اللّه به ورضيه،. فبهذه الحال ليس للجدال محل [فيها] لأن الجدال محله وفائدته عند اشتباه الحق والتباس الأمر،. فأما إذا وضح وبان، فليس إلا الانقياد والإذعان. هذا وكثير من المؤمنين لم يجر منهم من هذه المجادلة شيء، ولا كرهوا لقاء عدوهم،.وكذلك الذين عاتبهم اللّه، انقادوا للجهاد أشد الانقياد، وثبتهم اللّه، وقيض لهم من الأسباب ما تطمئن به قلوبهم كما سيأتي ذكر بعضها. وكان أصل خروجهم يتعرضون لعير خرجت مع أبي سفيان بن حرب لقريش إلى الشام، قافلة كبيرة،.فلما سمعوا برجوعها من الشام، ندب النبي صلى الله عليه وسلم الناس،.فخرج معه ثلاثمائة، وبضعة عشر رجلا معهم سبعون بعيرا، يعتقبون عليها، ويحملون عليها متاعهم،.فسمعت بخبرهم قريش، فخرجوا لمنع عيرهم، في عَدَدٍ كثير وعُدَّةٍ وافرة من السلاح والخيل والرجال، يبلغ عددهم قريبا من الألف. فوعد اللّه المؤمنين إحدى الطائفتين، إما أن يظفروا بالعير، أو بالنفير،.فأحبوا العير لقلة ذات يد المسلمين، ولأنها غير ذات شوكة،.ولكن اللّه تعالى أحب لهم وأراد أمرا أعلى مما أحبوا. أراد أن يظفروا بالنفير الذي خرج فيه كبراء المشركين وصناديدهم،. وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ فينصر أهله وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ أي: يستأصل أهل الباطل، ويُرِيَ عباده من نصره للحق أمرا لم يكن يخطر ببالهم. لِيُحِقَّ الْحَقَّ بما يظهر من الشواهد والبراهين على صحته وصدقه،. وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ بما يقيم من الأدلة والشواهد على بطلانه وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ فلا يبالي اللّه بهم.
تفسير البغوي
قوله تعالى : ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ) قال ابن عباس وابن الزبير ومحمد بن إسحاق والسدي أقبل أبو سفيان من الشام في عير لقريش في أربعين راكبا من كفار قريش فيهم : عمرو بن العاص ، ومخرمة بن نوفل الزهري ، وفيها تجارة كثيرة ، وهي اللطيمة حتى إذا كانوا قريبا من بدر ، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فندب أصحابه إليه وأخبرهم بكثرة المال وقلة العدد ، وقال : هذه عير قريش فيها أموالكم فاخرجوا إليها لعل الله تعالى أن ينفلكموها ، فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقى حربا .
فلما سمع أبو سفيان بمسير النبي - صلى الله عليه وسلم - استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم في أصحابه ، فخرج ضمضم سريعا إلى مكة .
وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له : يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني وخشيت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة ، فاكتم علي ما أحدثك . قال لها : وما رأيت ؟ قالت : رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ، ثم صرخ بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس ، فصرخ بمثلها ، ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا دخلتها منها فلقة .
فقال العباس : والله إن هذه لرؤيا رأيت ! فاكتميها ولا تذكريها لأحد .
ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وكان له صديقا فذكرها له واستكتمه إياها ، فذكرها الوليد لأبيه عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش .
قال العباس : فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة ، فلما رآني أبو جهل قال : يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا ، قال : فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم ، فقال لي أبو جهل : يا بني عبد المطلب متى حدثت هذه النبية فيكم ؟
قلت : وما ذاك ؟
قال : الرؤيا التي رأت عاتكة
قلت : وما رأت ؟
قال : يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ؟ قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه الثلاث ، فإن يك ما قالت حقا فسيكون ، وإن تمض الثلاث ، ولم يكن من ذلك شيء ، نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب .
فقال العباس : والله ما كان مني إليه كبير إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا ، ثم تفرقنا فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ، ثم لم تكن عندك غيرة لشيء مما سمعت
قال : قلت والله قد فعلت ما كان مني إليه من كثير ، وأيم الله لأتعرضن له فإن عاد لأكفينكه .
قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى أن قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه ، قال : فدخلت المسجد فرأيته ، فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به ، وكان رجلا خفيفا ، حديد الوجه ، حديد اللسان ، حديد النظر ، إذ خرج نحو باب المسجد يشتد .
قال : قلت في نفسي : ما له لعنه الله ؟ أكل هذا فرقا مني أن أشاتمه ؟ قال : فإذا هو قد سمع ما لم أسمع ، صوت ضمضم بن عمرو ، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره ، وقد جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه وهو يقول : يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوث الغوث . قال : فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر ، فتجهز الناس سراعا فلم يتخلف من أشراف قريش أحد إلا أن أبا لهب قد تخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة .
فلما اجتمعت قريش للمسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة بن الحارث ، فقالوا : نخشى أن يأتونا من خلفنا فكاد ذلك أن يثنيهم ، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم وكان من أشراف بني بكر ، فقال : أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه .
فخرجوا سراعا ، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه ، في ليال مضت من شهر رمضان ، حتى إذا بلغ واديا يقال له ذفران ، فأتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عيرهم ، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالروحاء أخذ عينا للقوم فأخبره بهم .
وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضا عينا له من جهينة حليفا للأنصار يدعى عبد الله بن أريقط فأتاه بخبر القوم وسبقت العير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزل جبريل وقال : إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشا ، وكانت العير أحب إليهم ، فاستشار النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في طلب العير وحرب النفير ، فقام أبو بكر فقال فأحسن ، ثم قام عمر فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك فوالله ما نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد يعني مدينة الحبشة لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرا ودعا له بخير .
ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أشيروا علي أيها الناس " وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا على من دهمه بالمدينة من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم .
فلما قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟
قال : أجل .
قال : قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئتنا به هو الحق أعطيناك على ذلك عهودا ومواثيق على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق في اللقاء ولعل الله تعالى يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله ، فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول سعد ونشطه ذلك ، ثم قال : " سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم " .
قال ثابت عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان " ، قال ويضع يده على الأرض هاهنا وهاهنا ، قال فما ماط أحد عن موضع يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذلك قوله تعالى : ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ) أي : الفريقين إحداهما أبو سفيان مع العير والأخرى أبو جهل مع النفير .
( وتودون ) أي : تريدون ( أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) يعني العير التي ليس فيها قتال . والشوكة : الشدة والقوة . ويقال السلاح .
( ويريد الله أن يحق الحق ) أي يظهره ويعليه ، ( بكلماته ) بأمره إياكم بالقتال . وقيل بعداته التي سبقت من إظهار الدين وإعزازه ، ( ويقطع دابر الكافرين ) أي : يستأصلهم حتى لا يبقى منهم أحد ، يعني : كفار العرب .
الإعراب:
(وَإِذْ) ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل المقدر اذكروا، الواو استئنافية والجملة مستأنفة.
(يَعِدُكُمُ اللَّهُ) فعل مضارع والكاف مفعوله الأول واللّه لفظ الجلالة فاعله.
(إِحْدَى) مفعوله الثاني.
(الطَّائِفَتَيْنِ) مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء لأنه مثنى.
(أَنَّها) أن واسمها.
(لَكُمْ) متعلقان بمحذوف خبر، وأن واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب بدل من إحدى.
(وَتَوَدُّونَ) مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعله، والجملة في محل نصب حال بعد واو الحال.
(أَنَّ غَيْرَ) أن واسمها، (ذاتِ) مضاف إليه.
(الشَّوْكَةِ) مضاف إليه.
(تَكُونُ) مضارع ناقص واسمها ضمير مستتر.
(لَكُمْ) متعلقان بمحذوف خبر والجملة في محل رفع خبر أن، وأن واسمها وخبرها في محل نصب مفعول به.
(وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ) فعل مضارع ولفظ الجلالة وفاعله والمصدر المؤول مفعوله (بِكَلِماتِهِ) متعلقان بمحذوف حال. والجملة معطوفة على جملة يعدكم. وكذلك جملة (وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) معطوفة.