«ولما رجع موسى إلى قومه غضبان» من جهتهم «أسفا» شديد الحزن «قال» «بئسما» أي بئس خلافة «خلفتموني» ها «من بعدي» خلافتكم هذه حيث أشركتم «أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح» ألواح التوراة غضبا لربه فتكسرت «وأخذ برأس أخيه» أي شعره بيمينه ولحيته بشماله «يجره إليه» غضبا «قال» يا «ابْنَ أُمِّ» بكسر الميم وفتحها، أراد أمي وذكرها أعطف لقبله «إن القوم استضعفوني وكادوا» قاربوا «يقتلونني فلا تُشْمت» تُفرح «بي الأعداء» بإهانتك إياي «ولا تجعلني مع القوم الظالمين» بعبادة العجل في المؤاخذة.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
«إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ» وهم الملائكة المقربون «لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ» يقول : يذلون ويخضعون له «وَيُسَبِّحُونَهُ» أي ينزهونه عن الصفات التي لا تليق به وهي التي تقربوا بها إليه من الذل والخضوع وصدقهم اللّه في هذه الآية في قولهم : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) فأخبر اللّه عنهم بما أخبروه عن نفوسهم «وَلَهُ يَسْجُدُونَ» وصفهم بالسجود له عزّ وجل مع هذه الأحوال المذكورة ، وهنا يسجد التالي للقرآن في هذه السجدة اقتداء بسجود الملأ الأعلى وبهديهم ، قال اللّه تعالى لما ذكر النبيين عليهم السلام لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وذكر أنه تعالى آتاهم الكتاب والحكمة والنبوة قال له : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) وهم بشر مثله ، فما ظنك بالملائكة الذين لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وأي هدي
أعظم مما هدى اللّه تعالى به الملائكة ، فمن سجد فيها ولم يحصل له نفحة مما حصل للملائكة في سجودها من حيث ملكيته الخاصة به فما سجدها ، وهكذا في كل سجدة ترد .
(8) سورة الأنفال مدنيّة
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
------------
(206) الفتوحات ج 1 /
509
يخبر تعالى أن موسى ، عليه السلام ، رجع إلى قومه من مناجاة ربه تعالى وهو غضبان أسف .
قال أبو الدرداء " الأسف " : أشد الغضب .
( 151 ) ( قال بئسما خلفتموني من بعدي ) يقول : بئس ما صنعتم في عبادتكم العجل بعد أن ذهبت وتركتكم .
وقوله : ( أعجلتم أمر ربكم ) ؟ يقول : استعجلتم مجيئي إليكم ، وهو مقدر من الله تعالى .
وقوله : ( وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه ) قيل : كانت الألواح من زمرد . وقيل : من ياقوت . وقيل : من برد وفي هذا دلالة على ما جاء في الحديث : " ليس الخبر كالمعاينة "
ثم ظاهر السياق أنه إنما ألقى الألواح غضبا على قومه ، وهذا قول جمهور العلماء سلفا وخلفا . وروى ابن جرير عن قتادة في هذا قولا غريبا ، لا يصح إسناده إلى حكاية قتادة ، وقد رده ابن عطية وغير واحد من العلماء ، وهو جدير بالرد ، وكأنه تلقاه قتادة عن بعض أهل الكتاب ، وفيهم كذابون ووضاعون وأفاكون وزنادقة .
وقوله : ( وأخذ برأس أخيه يجره إليه ) خوفا أن يكون قد قصر في نهيهم ، كما قال في الآية الأخرى : ( قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري . قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ) [ طه : 92 - 94 ] وقال هاهنا : ( ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين ) أي : لا تسقني مساقهم ، ولا تخلطني معهم . وإنما قال : ( ابن أم ) ; لتكون أرأف وأنجع عنده ، وإلا فهو شقيقه لأبيه وأمه . فلما تحقق موسى ، عليه السلام ، براءة ساحة هارون عليه السلام كما قال تعالى : ( ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري ) [ طه : 90 ]
قوله تعالى: {ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا} لم ينصرف {غضبان} لأن مؤنثه غضبى، ولأن الألف والنون فيه بمنزلة ألفي التأنيث في قولك حمراء. وهو نصب على الحال. و{أسفا} شديد الغضب. قال أبو الدرداء : الأسف منزلة وراء الغضب أشد من ذلك. وهو أسف وأسف وأسفان وأسوف. والأسيف أيضا الحزين. ابن عباس والسدي : رجع حزينا من صنيع قومه. وقال الطبري : أخبره الله عز وجل قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل؛ فلذلك رجع وهو غضبان. ابن العربي : وكان موسى عليه السلام من أعظم الناس غضبا، لكنه كان سريع الفيئة؛ فتلك بتلك. قال ابن القاسم : سمعت مالكا يقول : كان موسى عليه السلام إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته، ورفع شعر بدنه جبته. وذلك أن الغضب جمرة تتوقد في القلب. ولأجله أمر النبي صلى الله عليه وسلم من غضب أن يضطجع. فإن لم يذهب غضبه اغتسل؛ فيخمدها اضطجاعه ويطفئها اغتساله. وسرعه غضبه كان سببا لصكه ملك الموت ففقأ عينه. وقال الترمذي الحكيم : وإنما استجاز موسى عليه السلام ذلك لأنه كليم الله؛ كأنه رأى أن من اجترأ عليه أو مد إليه يدا بأذى فقد عظم الخطب فيه. ألا ترى أنه احتج عليه فقال : من أين تنزع روحي؟ أمن فمي وقد ناجيت به ربي! أم من سمعي وقد سمعت به كلام ربي! أم من يدي وقد قبضت منه الألواح! أم من قدمي وقد قمت بين يديه أكلمه بالطور! أم من عيني وقد أشرق وجهي لنوره. فرجع إلى ربه مفحما. وفي مصنف أبي داود عن أبي ذر قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع). وروي أيضا عن أبي وائل القاص قال : دخلنا على عروة بن محمد السعدي فكلمه رجل فأغضبه؛ فقام ثم رجع وقد توضأ، فقال : حدثني أبي عن جدي عطية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ). قوله تعالى: {قال بئسما خلفتموني من بعدي} ذم منه لهم؛ أي بئس العمل عملتم بعدي. يقال : خلفه؛ بما يكره. ويقال في الخير أيضا. يقال منه : خلفه بخير أو بشر في أهله وقومه بعد شخوصه. {أعجلتم أمر ربكم} أي سبقتموه. والعجلة : التقدم بالشيء قبل وقته، وهي مذمومة. والسرعة : عمل الشيء في أول أوقاته، وهي محمودة. قال يعقوب : يقال عجلت الشيء سبقته. وأعجلت الرجل استعجلته، أي حملته على العجلة. ومعنى {أمر ربكم} أي ميعاد ربكم، أي وعد أربعين ليلة. وقيل : أن تعجلتم سخط ربكم. وقيل : أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر من ربكم. قوله تعالى: {وألقى الألواح} فيه مسألتان: الأولى: أي مما اعتراه من الغضب والأسف حين أشرف على قومه وهم عاكفون على عبادة العجل، وعلى أخيه في إهمال أمرهم؛ قال سعيد بن جبير. ولهذا قيل : ليس الخبر كالمعاينة. ولا التفات لما روي عن قتادة إن صح عنه، ولا يصح أن إلقاءه الألواح إنما كان لما رأى فيها من فضيلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك لأمته. وهذا قول رديء لا ينبغي أن يضاف إلى موسى صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أن الألواح تكسرت، وأنه رفع منها التفصيل وبقي فيها الهدى والرحمة. الثانية: وقد استدل بعض جهال المتصوفة بهذا على جواز رمي الثياب إذا اشتد طربهم على المغنى. ثم منهم من يرمي بها صحاحا، ومنهم من يخرقها ثم يرمي بها. قال : هؤلاء في غيبة فلا يلامون؛ فإن موسى عليه السلام لما غلب عليه الغم بعبادة قومه العجل، رمى الألواح فكسرها، ولم يدر ما صنع. قال أبو الفرج الجوزي : من يصحح عن موسى عليه السلام أنه رماها رمي كاسر؟ والذي ذكر في القرآن ألقاها، فمن أين لنا أنها تكسرت؟ ثم لو قيل : تكسرت فمن أين لنا أنه قصد كسرها؟ ثم لو صححنا ذلك عنه قلنا كان في غيبة، حتى لو كان بين يديه بحر من نار لخاضه. ومن يصحح لهؤلاء غيبتهم وهم يعرفون المغنى من غيره، ويحذرون من بئر لو كانت عندهم. ثم كيف تقاس أحوال الأنبياء على أحوال هؤلاء السفهاء. وقد سئل ابن عقيل عن تواجدهم وتخريق ثيابهم فقال : خطأ وحرام؛ وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. فقال له قائل : فإنهم لا يعقلون ما يفعلون. فقال : إن حضروا هذه الأمكنة مع علمهم أن الطرب يغلب عليهم فيزيل عقولهم أثموا بما أدخلوه على أنفسهم من التخريق وغيره مما أفسدوا، ولا يسقط عنهم خطاب الشرع؛ لأنهم مخاطبون قبل الحضور بتجنب هذا الموضع الذي يفضي إلى ذلك. كما هم منهيون عن شرب المسكر، كذلك هذا الطرب الذي يسميه أهل التصوف وجدا إن صدقوا أن فيه سكر طبع، وإن كذبوا أفسدوا مع الصحو، فلا سلامة فيه مع الحالين، وتجنب مواضع الريب واجب. قوله تعالى: {وأخذ برأس أخيه يجره إليه} أي بلحيته وذؤابته. وكان هارون أكبر من موسى - صلوات الله وسلامه عليهما - بثلاث سنين، وأحب إلى بني إسرائيل من موسى؛ لأنه كان لين الغضب. وللعلماء في أخذ موسى برأس أخيه أربع تأويلات : الأول : أن ذلك كان متعارفا عندهم؛ كما كانت العرب تفعله من قبض الرجل على لحية أخيه وصاحبه إكراما وتعظيما، فلم يكن ذلك على طريق الإذلال. الثاني : أن ذلك إنما كان ليسر إليه نزول الألواح عليه؛ لأنها نزلت عليه في هذه المناجاة وأراد أن يخفيها عن بني إسرائيل قبل التوراة. فقال له هارون : لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي؛ لئلا يشتبه سراره على بني إسرائيل بإذلاله. الثالث : إنما فعل ذلك به لأنه وقع في نفسه أن هارون مائل مع بني إسرائيل فيما فعلوه من أمر العجل. ومثل هذا لا يجوز على الأنبياء. الرابع : ضم إليه أخاه ليعلم ما لديه؛ فكره ذلك هارون لئلا يظن بنو إسرائيل أنه أهانه؛ فبين له أخوه أنهم استضعفوه، يعني عبدة العجل، وكادوا يقتلونه أي قاربوا. فلما سمع عذره قال : رب اغفر لي ولأخي؛ أي اغفر لي ما كان من الغضب الذي ألقيت من أجله الألواح، ولأخي لأنه ظنه مقصرا في الإنكار عليهم وإن لم يقع منه تقصير؛ أي اغفر لأخي إن قصر. قال الحسن : عبد كلهم العجل غير هارون، إذ لو كان ثم مؤمن غير موسى وهارون لما اقتصر على قوله : رب اغفر لي ولأخي، ولدعا لذلك المؤمن أيضا. وقيل : استغفر لنفسه من فعله بأخيه، فعل ذلك لموجدته عليه؛ إذ لم يلحق به فيعرفه ما جرى ليرجع فيتلافاهم؛ ولهذا قال {يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن أفعصيت أمري} [
طه : 92 - 93] الآية. فبين هارون أنه إنما أقام خوفا على نفسه من القتل. فدلت الآية على أن لمن خشي القتل على نفسه عند تغيير المنكر أن يسكت. ابن العربي : وفيها دليل على أن الغضب لا يغير الأحكام كما زعم بعض الناس؛ فإن موسى عليه السلام لم يغير غضبه شيئا من أفعاله، بل اطردت على مجراها من إلقاء لوح وعتاب أخ وصك ملك. الهدوي : لأن غضبه كان لله عز وجل، وسكوته عن بني إسرائيل خوفا أن يتحاربوا أو يتفرقوا. قوله تعالى: {قال ابن أم} وكان ابن أمه وأبيه. ولكنها كلمة لين وعطف. قال الزجاج : قيل كان هارون أخا موسى لأمه لا لأبيه. وقرئ بفتح الميم وكسرها؛ فمن فتح جعل {ابن أم} اسما واحدا كخمسة عشر؛ فصار كقولك : يا خمسة عشر أقبلوا. ومن كسر الميم جعله مضافا إلى ضمير المتكلم ثم حذف ياء الإضافة؛ لأن مبنى النداء على الحذف، وأبقى الكسرة في الميم لتدل على الإضافة؛ كقوله {يا عباد} [
الزمر : 10]. يدل عليه قراءة ابن السميقع {يا ابن أمي} بإثبات الياء على الأصل. وقال الكسائي والفراء وأبو عبيد {يا ابن أم} بالفتح، تقديره يا ابن أماه. وقال البصريون : هذا القول خطأ؛ لأن الألف خفيفة لا تحذف، ولكن جعل الاسمين اسما واحدا. وقال الأخفش وأبو حاتم {يا ابن أم} بالكسر كما تقول : يا غلام غلام أقبل، وهي لغة شاذة والقراءة بها بعيدة. وإنما هذا فيما يكون مضافا إليك؛ فأما المضاف إلى مضاف إليك فالوجه أن تقول : يا غلام غلامي، ويا ابن أخي. وجوزوا يا ابن أم، يا ابن عم، لكثرتها في الكلام. قال الزجاج والنحاس : ولكن لها وجه حسن جيد، يجعل الابن مع الأم ومع العم اسما واحدا؛ بمنزلة قولك : يا خمسة عشر أقبلوا، فحذفت الياء كما حذفت من يا غلام {إن القوم استضعفوني} استذلوني وعدوني ضعيفا. {وكادوا} أي قاربوا. {يقتلونني} بنونين؛ لأنه فعل مستقبل. ويجوز الإدغام في غير القرآن. {فلا تشمت بي الأعداء} أي لا تسرهم. والشماتة : السرور بما يصيب أخاك من المصائب في الدين والدنيا. وهي محرمة منهي عنها. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ منها ويقول : (اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء). أخرجه البخاري وغيره. وقال الشاعر : إذا ما الدهر جر على أناس ** كلاكله أناخ بآخرينــــا فقــل للشامتين بنا أفيقوا ** سيلقى الشامتون كما لقينا وقرأ مجاهد ومالك بن دينار {تشمت} بالنصب في التاء وفتح الميم، {الأعداء} بالرفع. والمعنى : لا تفعل بي ما تشمت من أجله الأعداء، أي لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله أنت بي. وعن مجاهد أيضا {تشمت} بالفتح فيهما {الأعداء} بالنصب. قال ابن جني : المعنى فلا تشمت بي أنت يا رب. وجاز هذا كما قال {الله يستهزئ بهم} [
البقرة : 15] ونحوه. ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلا نصب به الأعداء؛ كأنه قال : ولا تشمت بي، الأعداء. قال أبو عبيد : وحكيت عن حميد {فلا تشمت} بكسر الميم. قال النحاس : ولا وجه لهذه القراءة؛ لأنه إن كان من شمت وجب أن يقول تشمت. وإن كان من أشمت وجب أن يقول تشمت. وقوله {ولا تجعلني مع القوم الظالمين} قال مجاهد : يعني الذين عبدوا العجل. {قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين} تقدم.
ولما رجع موسى إلى قومه مِن بني إسرائيل غضبان حزينًا؛ لأن الله قد أخبره أنه قد فُتِن قومه، وأن السامريَّ قد أضلَّهم، قال موسى: بئس الخلافة التي خلفتموني مِن بعدي، أعجلتم أَمْر ربكم؟ أي: أستعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدَّر من الله تعالى؟ وألقى موسى ألواح التوراة غضبا على قومه الذين عبدوا العجل، وغضبًا على أخيه هارون، وأمسك برأس أخيه يجره إليه، قال هارون مستعطفًا: يا ابن أمي: إن القوم استذلوني وعدُّوني ضعيفًا وقاربوا أن يقتلوني، فلا تَسرَّ الأعداء بما تفعل بي، ولا تجعلني في غضبك مع القوم الذين خالفوا أمرك وعبدوا العجل.
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا أي: ممتلئا غضبا وغيظا عليهم، لتمام غيرته عليه الصلاة السلام، وكمال نصحه وشفقته، قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أي: بئس الحالة التي خلفتموني بها من بعد ذهابي عنكم، فإنها حالة تفضي إلى الهلاك الأبدي، والشقاء السرمدي. أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ حيث وعدكم بإنـزال الكتاب. فبادرتم - برأيكم الفاسد - إلى هذه الخصلة القبيحة وَأَلْقَى الألْوَاحَ أي: رماها من الغضب وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ هارون ولحيته يَجُرُّهُ إِلَيْهِ وقال له: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أن لا تَتَّبِعَن أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي لك بقولي: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ فـ قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي و قَالَ هنا ابْنَ أُمَّ هذا ترقيق لأخيه، بذكر الأم وحدها، وإلا فهو شقيقه لأمه وأبيه: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي أي: احتقروني حين قلت لهم: يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي أي: فلا تظن بي تقصيرا فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ بنهرك لي، ومسك إياي بسوء، فإن الأعداء حريصون على أن يجدوا عليَّ عثرة، أو يطلعوا لي على زلة وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فتعاملني معاملتهم.
قوله - عز وجل - : ( ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ) قال أبو الدرداء : الأسف شديد الغضب . وقال ابن عباس والسدي : أسفا أي حزينا . والأسف أشد الحزن ، ( قال بئسما خلفتموني من بعدي ) أي : بئس ما عملتم بعد ذهابي ، يقال : خلفه بخير أو بشر إذا أولاه في أهله بعد شخوصه عنهم خيرا أو شرا ، ( أعجلتم ) أسبقتم ( أمر ربكم ) قال الحسن : وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين ليلة . وقال الكلبي : أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم . ( وألقى الألواح ) التي فيها التوراة وكان حاملا لها ، فألقاها على الأرض من شدة الغضب .
قالت الرواة : كانت التوراة سبعة أسباع ، فلما ألقى الألواح تكسرت فرفعت ستة أسباعها وبقي سبع ، فرفع ما كان من أخبار الغيب ، وبقي ما فيه الموعظة والأحكام والحلال والحرام ، ( وأخذ برأس أخيه ) بذوائبه ولحيته ( يجره إليه ) وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين وأحب إلى بني إسرائيل من موسى ، لأنه كان لين الغضب . ( قال ) هارون عند ذلك ( ابن أم ) قرأ أهل الكوفة والشام هاهنا وفي طه بكسر الميم ، يريد يا ابن أمي ، فحذف ياء الإضافة وأبقيت الكسرة لتدل على الإضافة كقوله : " يا عباد " وقرأ أهل الحجاز والبصرة وحفص : بفتح الميم على معنى يا ابن أماه .
وقيل : جعله اسما واحدا وبناه على الفتح ، كقولهم : حضرموت ، وخمسة عشر ، ونحوهما ، وإنما قال ابن أم وكان هارون أخاه لأبيه وأمه ليرققه ويستعطفه .
وقيل : كان أخاه لأمه دون أبيه ، ( إن القوم استضعفوني ) يعني عبدة العجل ، ( وكادوا يقتلونني ) هموا وقاربوا أن يقتلوني ، ( فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني ) في مؤاخذتك علي ( مع القوم الظالمين ) يعني عبدة العجل .
(وَلَمَّا) الواو عاطفة ولما الحينية الشرطية (رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ) فعل ماض تعلق به الجار والمجرور وموسى فاعله والجملة في محل جر بالإضافة.
(غَضْبانَ) حال.
(أَسِفاً) حال ثانية.
(قالَ) الجملة جواب لما لا محل لها.
(بِئْسَما) فعل ماض لإنشاء الذم والفاعل ضمير مستتر.
(ما) نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب على التمييز.
(خَلَفْتُمُونِي) فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بتاء الفاعل المتحركة، والميم لجمع الذكور وقد أشبعت حركة الميم الضمة إلى الواو، والنون للوقاية، والياء مفعول به، والجملة في محل نصب صفة ما.
(مِنْ بَعْدِي) اسم مجرور بالكسرة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم، والياء في محل جر بالإضافة، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما.
(أَعَجِلْتُمْ) الهمزة للاستفهام وفعل ماض وفاعله.
(أَمْرَ) مفعوله.
(رَبِّكُمْ) مضاف إليه، والجملة مستأنفة.
(وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) ماض ومفعوله وفاعله هو والجملة معطوفة على قال.
(وَأَخَذَ بِرَأْسِ) ماض فاعله مستتر والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما.
(أَخِيهِ) مضاف إليه مجرور وعلامة جره الياء لأنه من الأسماء الخمسة، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة معطوفة.
(يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) فعل مضارع تعلق به الجار والمجرور والهاء مفعوله والجملة في محل نصب حال.
(قالَ) ماض فاعله مستتر (ابْنَ أُمَّ) جزءان مبنيان على الفتح في محل نصب على النداء، أو ابن منادى وأمّ: مضاف إليه مجرور بالكسرة المقدرة على الألف المحذوفة المنقلبة عن ياء. وقد دل على الألف المحذوفة الفتحة كما في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم.
(إِنَّ الْقَوْمَ) إن واسمها.
(اسْتَضْعَفُونِي) فعل ماض وفاعله ومفعوله والجملة في محل رفع خبر إن وجملة إن القوم مفعول به.
(كادُوا) كاد واسمها.
(يَقْتُلُونَنِي) فعل مضارع وفاعل ومفعول به والجملة في محل نصب خبر كادوا وجملة كادوا معطوفة.
(فَلا) الفاء هي الفصيحة، ولا ناهية جازمة.
(تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) مضارع مجزوم تعلق به الجار والمجرور والأعداء مفعوله والفاعل ضمير مستتر، والجملة لا محل لها جواب شرط غير جازم.
(وَلا) الواو عاطفة ولا ناهية.
(تَجْعَلْنِي) مضارع مجزوم والنون للوقاية والياء مفعول به والفاعل أنت.
(مَعَ الْقَوْمِ) ظرف مكان والقوم مضاف إليه.
(الظَّالِمِينَ) صفة مجرورة وعلامة جرها الياء لأنها جمع مذكر سالم والجملة معطوفة.
Traslation and Transliteration:
Walamma rajaAAa moosa ila qawmihi ghadbana asifan qala bisama khalaftumoonee min baAAdee aAAajiltum amra rabbikum waalqa alalwaha waakhatha birasi akheehi yajurruhu ilayhi qala ibna omma inna alqawma istadAAafoonee wakadoo yaqtuloonanee fala tushmit biya alaAAdaa wala tajAAalnee maAAa alqawmi alththalimeena
And when Moses returned unto his people, angry and grieved, he said: Evil is that (course) which ye took after I had left you. Would ye hasten on the judgment of your Lord? And he cast down the tablets, and he seized his brother by the head, dragging him toward him. He said: Son of my mother! Lo! the folk did judge me weak and almost killed me. Oh, make not mine enemies to triumph over me and place me not among the evil-doers.
Musa, kızgın bir halde acıklanarak kavmine dönünce dedi ki: Benden sonra ne de kötü bir iş işlediniz, Rabbinizin vaadettiği müddet bitmeden acele mi ettiniz? Ve levihleri atıp kardeşinin saçından, sakalından tutarak kendisine doğru çekmeye başladı. Harun, anam oğlu dedi, bu kavim, gerçekten de aciz bıraktı beni, az kaldı ki öldürüyorlardı da, onun için bana bu harekette bulunup düşmanları sevindirme ve beni zulmeden kavimle beraber tutma.
Et lorsque Moïse retourna à son peuple, fâché, attristé, il dit: «Vous avez très mal agi pendant mon absence! Avez-vous voulu hâter le commandement de votre Seigneur?» Il jeta les tablettes et prit la tête de son frère, en la tirant à lui: «O fils de ma mère, dit (Aaron), le peuple m'a traité en faible, et peu s'en est fallu qu'ils ne me tuent. Ne fais donc pas que les ennemis se réjouissent à mes dépens, et ne m'assigne pas la compagnie des gens injustes».
Und als Musa zu seinen Leuten zurückkam - zornig und voller Trauer, sagte er: "Erbärmlich ist das, wie ihr nach mir meine Nachfolge angetreten habt. Habt ihr etwa das Gebot eures HERRN nicht abwarten wollen?" Dann warf er die Tafeln und packte seinen Bruder am Kopf und zog ihn zu sich, dieser sagte: "Sohn meiner Mutter! Die Leute haben mich gedemütigt und beinahe getötet, laß die Feinde nicht über mich triumphieren und setze mich nicht gleich mit den Unrecht- Begehenden!"