الفتوحات المكية

الحضرات الإلهية والأسماء ءالحسنى

وهو الباب 558 من الفتوحات المكية

«الصاحب حضرة الصحبة»

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[54] - «الصاحب حضرة الصحبة»

الصاحب الحق ليس الصاحب الداعي *** ولو تحكم في بري‏ء وأوجاعي‏

وإن صاحبها يبغي مصاحبتي *** ويدعي أنه مني ي كأسماعي‏

صحبة الرحمن فيها أدب *** فأصحب الرحمن لا تصحب سواه‏

يتمناه الذي يصحبه *** إن يراه فيرى فيه مناه‏

عجبا فيه وفي رؤيته *** ما لعبد فيه إلا ما نواه‏

بذل المجهود كي يبصره *** وأبي ذلك في الحق عماه‏

لو دري الإنسان من غيرته *** إنه حقا على هذا بناه‏

يدعى صاحبها عبد الصاحب‏

قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في دعائه ربه أنت الصاحب في السفر

وقال تعالى مصدقا له فيما سماه به من الصاحب وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ فهو الصاحب على كل حال مع العبد في أينيته‏

فهو الله في السماء *** وفي الأرض يحكم‏

وإذا كان هكذا *** فاحذروا منه واعلموا

أنه عالم بكم *** عادل ليس يظلم‏

[أن الله تعالى حد حدود العبادة معللة وغير معللة]

وذلك أن الله تعالى حد حدود العبادة عقلية وشرعية معللة وغير معللة فما عقلت علته منها سميناها عقلية وما لم تعقل علته سميناها تعبد أو عبادة شرعية فهو مع عباده المكلفين يحفظ عليهم أنفاسهم في حدوده وهو مع من ليس بمكلف ينظر ما يفعل معه المكلفون بأن لا يتعدوا حدوده فهو مع كل شي‏ء بهذه المثابة في الدنيا وأما في الآخرة فما هو معهم إلا لحفظ أنفاسهم ولما يوجده فيهم فإنهم محل الانفعال لما يريد إيجاده فلا يزال يوجد له تعالى ولهم فله من حيث ما يسبحه الموجود بحمده في شيئية وجوده فإنها النعمة الكبرى فتسبيحه الحمد لله المنعم المفضل وأما كونه يوجد لهم فلما يحصل لهم من المنفعة بسبب ذلك الموجود وما يليق به فيعود نفعه عليهم ويعود تسبيحه عليه تعالى هكذا دائما ثم إن العالم لا يزال مسافرا أبدا فالله صاحبه أبدا فهو بعينه يسافر من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام والحق معه صاحبه وللحق الشئون كما قال تعالى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ فالحق أيضا له من شأن إلى شأن فشئون الحق هي أحوال المسافرين يجدد خلقها لهم في كل يوم زمان فرد فلا يتمكن للعالم استقرار على حال واحدة وشأن واحد لأنها أعراض والأعراض لا تبقي زمانين مطلقا فلا وجود لها إلا زمان وجودها خاصة ثم يعقبها في الزمان الذي يلي زمان وجودها الأمثال أو الأضداد فأعيان الجواهر على هذا لا تخلو عن أحوال ولا خالق لها إلا الله فالحق في شئون أبدا فإنه لكل عين حال فللحق شئون ولنا أحوال فالصحبة دائمة غير منقطعة وشئون حاكمة إلى غير نهاية ولا بلوغ غاية وذلك من المرتبة التي صح لنا فيها أولية الظهور ثم استمر السير وتمادى السفر والانتقال من بلد إلى بلد ومن مكان إلى مكان ومن مكانة إلى مكانة لكل موجود من العالم فلنعين من ذلك ما يختص بهذا النوع الإنساني فأوجده بكله ظاهر صورته وباطنها أجزاء العالم فظهر بعينه في كونه بعد أن كان يدور في أطوار العالم من عالم الأفلاك والأركان ولكن مختلف الأحوال مفترق الأجزاء غير معين بهذا الشي‏ء الخاص فالتأمت أجزاؤه والحق صاحبه في كل حال من أحوال تنقلاته وكيف لا يصحبه وهو خالق تلك الأحوال التي ينقله فيها والأطوار فأظهر عينه مجموعا لم يبق منه شيئا في غير ذاته ثم جعل ما جعل فيه يستحيل من صورة إلى صورة وهو أيضا سفر ويمده بمثل ما زال عنه وسافر أو بضده لتبقى عين جمعيته فصار الإنسان منزلا من منازل الوجود يسافر منه ويسافر إليه وليس لكل مسافر إليه إذا وصل ونزل به سوى جائزته ليلة واحدة وهي الزمن الفرد ويرحل ولا يرد عليه حال من الأحوال إلا والحق صاحب لذلك الوارد فيتعين على هذا المحل الذي هو الإنسان في كل نفس عند ورود كل حال كرامتان كرامة وضيافة لذلك الوارد بحسب مكانته من ربه وما تعطيه حقيقته والإنسان قادر على إجازته والقيام بحرمته وكرامته وضيافته ولسرعة ارتحاله تكون المسارعة إلى أداء جائزته والكرامة الأخرى المتعينة عليه كرامة صاحبه الواصل معه وهو الله الصاحب في السفر فينظر بأي اسم إلهي وصل فذلك الاسم الإلهي هو صاحبه فينظر ما يستحقه ذلك الاسم الإلهي من الجلال والتعظيم والتمجيد والتحميد فيكرمه ويضيفه بها فتلك كرامته ويبادر إلى ذلك في الزمان الواحد لأن الإنسان مجموع والرحلة سريعة فيعين لكل واحد أعني للحال الوارد وللصاحب معه وهو الاسم الإلهي الذي يحفظه من نفسه ما يستحق أن يقوم بما يتعين للحق عليه من الكرامة ويعين من نفسه أيضا حقيقة أخرى مناسبة للوارد تقوم بخدمته إلى أن يرحل عنه فالإنسان منزل ومناخ للمسافرين من الأحوال وهو في نفسه مسافر أيضا فله مع الله صحبة دائمة لسفره وله تلقى كل وارد

عليه من الله مع صاحبه من الأسماء الإلهية فيتعين عليه في كل نفس خمسة حقوق يطالب بالقيام بها حق الوارد عليه وحق صاحبه وحق المسافر عنه في تسفيره وحق صاحبه والحق الخامس حق الله تعالى وهو صاحبه الملازم له في سفره فإنه الصاحب في السفر كما هو الخليفة في الأهل فما خلق الله أتعب خاطر ولا قلب من أهل الكشف والحضور العارفين بالله من أهل الله أهل الشهود لهذه الأمور فيتخيل من لا معرفة له بالأمور أن العارف في راحة لا والله بل هو أشد عذابا من كل أحد فإنه لا يزال في كل نفس يطلب نفسه مطلوبا من أجل ما أشهده الله ما أشهده بأداء هذه الخمسة الحقوق ولو لا أن الله يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ برحمته التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ وإن من رحمة الله أعطى الله هذا العبد من الاتساع وكثرة الوزعة والخدام ما يستعين بهم على أداء هذه الحقوق ما قدر الإنسان على أداء شي‏ء منها ولا يطالب بهذه الحقوق كلها إلا من أشهده الله عين ما ذكرناه كما قال إِنَّ في ذلِكَ لَذِكْرى‏ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وهُوَ شَهِيدٌ كما يعين في الإنسان الواحد في إنزال القرآن أنه بلاغ من وجه وانذار من وجه وإعلام بتوحيد من وجه وتذكرة لما نسيه من وجه والمخاطب بهذا كله واحد العين وهو الإنسان قال تعالى هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ فهو بلاغ له من كونه من الناس ولِيُنْذَرُوا به من كونه على قدم غرور وخطر فيحذروا ولِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أي يفعل ما يريد ما ثم آخر يرده عن إرادته فيك ويصده ولِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ بما أشهدهم به على نفسه أنه ربه ليقوم بما يجب على المملوك من حق سيده الذي أقر له بالملك ولهذا العبد إذا اشتراه الإنسان من غيره فمن شرطه أن يقر العبد لبايعه بالملك ولا يسمع مجرد دعواه في أنه مالك له ولا يقوم على العبد حجة بقول سيده ما لم يعترف هو بالملك له ويغفل عن هذا القدر كثير من الناس فإن الأصل الحرية واستصحاب الأصل مرعي وبعد الاعتراف بالملك صار الاسترقاق في هذه الرقبة أصلا يستصحب حتى يثبت الحرية إن ادعاها هكذا هو الأمر قال تعالى وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ من بَنِي آدَمَ من ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏ فثبت الاسترقاق لله عليهم فطولبوا بالوفاء بحق العبودية لهذا الإقرار فهو قوله ولِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ فإن التذكر لا يكون إلا عن علم متقدم منسي فيذكره من يعلم ذلك فالله مع الخلق هو الصاحب المجهول لغيبتهم عن شهود هذه الصحبة فلا يطالبون بحق ما يختص به والذي يشهده إيمانا أو عيانا يطالب بذلك فالعالم المحجوب للغيبة يخاف من المعاصي والعارف للشهود يخاف من الكفر وهو الستر يقول سدل الحجاب بعد الكشف نسأل الله عصمة واقية وهي الشهود الدائم فإنه مباح له جميع ما يتصرف فيه من هذا حاله فإنه إذا كان العبد المذنب في عقب ذنبه يعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب علم إيمان وقد أبيح له ورفع الحجر عنه في تصرفه فما ظنك بصاحب الشهود الذي يرى من يفعل به وفيه وما ينفعل وصدور الأعيان من حضرة من تصدر فافهم وتأمل ترشد وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً فإني ما ترجمت لك إلا عن شرع مستقر ودين كالصباح الأبلج لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!