الفتوحات المكية

الحضرات الإلهية والأسماء ءالحسنى

وهو الباب 558 من الفتوحات المكية

«حضرة السمع»

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[27] - «حضرة السمع»

أسمع الحق يا أخي نداكا *** إنه سامع عليم بذاكا

لو جفوت الجناب يوما بأمر *** لم تجده يوما له قد جفاك‏

[حضرة النفس وهو العماء]

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد السميع لأنه مسموع فيتضمن الكلام لأنه مسموع وكذا الأصوات فهذه الحضرة تتعلق بحضرة النفس وهو العماء وقد تقدم له باب يخصه كبير مبسوط إلا أني أومي إلى نبذ من هذه الحضرة مما لم نذكره في باب النفس يطلب السمع في حضرته وليس إلا تلاوة الكتب الإلهية تلاها من تلاها على جهة التوصيل فلا بد لحكم هذه الحضرة فيها وليس إلا السمع لَقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله فَقِيرٌ ونَحْنُ أَغْنِياءُ وقال إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وقال كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا

يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً ونِداءً وقال ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وهُمْ لا يَسْمَعُونَ ولَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وهُمْ مُعْرِضُونَ من هذه الحضرة سمع كل سامع غير إن الموصوفين بأنهم يسمعون مختلفون في القبول فمنهم سامع يكون على استعداد يكون معه الفهم عند سماعه بما أريد له ذلك المسموع ولا يكون ذلك إلا لمن كان الحق سمعه خاصة وهو الذي أوتي جميع الأسماء وجوامع الكلم وكل من ادعى هذا المقام من العطاء أعني الأسماء وجوامع الكلم وسمع ولم يكن عين سمعه عين فهمه فدعواه لا تصح وهو الذي له نصيب في قوله تعالى ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وهُمْ لا يَسْمَعُونَ والسماع المطلق الذي لكل سامع إنما هو للذي لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً ونِداءً وقد لا يعلم من نودي فذلك هو الأصم لأن لكل صورة روحا وروح السماع الفهم الذي جاء له المسموع قال تعالى صُمٌّ وإن كانوا يسمعون بُكْمٌ وإن كانوا يتكلمون عُمْيٌ وإن كانوا يبصرون فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ لما سمعوا ولا يرجعون في الاعتبار إلى ما أبصروا ولا في الكلام إلى الميزان الذي به خوطبوا مثل قوله تعالى أَنْ تَقُولُوا عَلَى الله ما لا تَعْلَمُونَ وأَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ وتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وأصحاب هذه الصفات أيضا كما لا يرجعون فإن الحق قد أخبر عنهم في منزلة واحدة إنهم لا يعقلون من العقال أي لا يتقيدون بما أريد له ذلك المسموع ولا المبصر ولا المتكلم به من الذي تكلم فإن الله عند لسان كل قائل يعني سميعا يقيده بما سمع منه فلا يتخيل قائل إن الله أهمله وإن أمهله ما يَلْفِظُ من قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ يحصي عليه ألفاظه التي يرمي بها لا يترك منها شيئا حتى يوقفه عليها إما في الدنيا إن كان من أهل طريقنا وإما في الآخرة في الموقف العام الذي لا بد منه وكل صوت وكلام من كل متكلم وصامت إذا أسمعه الحق تعالى من أسمعه فإنما أسمعه ليفهمه فيكون بحيث ما قيل له ونودي به وأقله النداء وأقل ما يتعلق بالنداء الإجابة وهو أن يقول لبيك فيهيئ محله لفهم ما يقال له أو يدعى إليه بعد النداء كان ما كان فإذا كان الحق السميع نداء العبد نادى العبد من نادى أما الحق وأما كونا من الأكوان فإن الله يسمع ذلك كله لأنه ما يَكُونُ من نَجْوى‏ ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ ولا أَدْنى‏ من ذلِكَ ولا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ يسمع ما يتناجون به ولذلك قال لهم فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ والْعُدْوانِ وتَناجَوْا بِالْبِرِّ والتَّقْوى‏ واتَّقُوا الله فإنه مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ فيما تتناجون به فإنكم إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وإن كان معهم فكنى بالحشر إذا فتح الله بإزالة الغطاء عن أعينهم فيرون عند ذلك من هو معهم فيما يتناجون به فيما بينهم فعبر عنه بالحشر للسؤال عما كانوا فيه وأما ذكره تعالى بأنه يشفع فرديتهم ويثني أحديتهم في قوله ولا أَدْنى‏ من ذلِكَ ولا أَكْثَرَ فهل يريد به أيضا أفراد شفعيتهم كما شفع وتريتهم أو لا يكون أبدا إلا مشفعا فرديتهم خاصة كما نص عليه‏

[أن الله ما خلق شيئا إلا في مقام أحديته التي بها يتميز عن غيره‏]

فاعلم وفقك الله أن الله ما خلق شيئا إلا في مقام أحديته التي بها يتميز عن غيره فبالشفعية التي في كل شي‏ء يقع الاشتراك بين الأشياء وبأحدية كل شي‏ء يتميز كل شي‏ء عن شيئية غيره وليس المعتبر في كل شي‏ء إلا ما يتميز به وحينئذ يسمى شيئا فلو أراد الشفعية لما كان شيئا وإنما يكون شيئين وهو إنما قال إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ ولم يقل لشيئين فإذا كان الأمر على ما قررناه ثم جاء الحق لكل شي‏ء بصورته التي خلقه الله عليها فقد شفع ذلك الشي‏ء كما يشفع الرئي صورته برؤيته‏

في المرآة نفسه فيحكم بالصورتين صورته وصورة ما شفعها فلذلك ما أتى الحق في الإخبار عن كينونته معنا إلا مشفعا لفرديتنا فجعل نفسه رابعا وسادسا وأدنى من ذلك وهو أن يكون ثانيا وأكثر وهو ما فوق الستة من العدد الزوج أعلاما منه تعالى أنه على صورة العالم أو العالم على صورته وما ذكر في هذه الكينونة إلا كونه سميعا من كون من هو معهم يتناجون لا من كونهم غير متناجين فإذا سمعت الحق يقول أمرا ما فما يريد الأعيان وإنما يريد ما هم فيه من الأحوال إما قولا وإما غير قول من بقية الأعمال إذ لا فائدة في قصد الأعيان لعينهم وإنما الفائدة إحصاء ما يكون من هذه الأعيان من الأحوال فعنها يسألون وبها يطلبون فيقال له ما أردت بهذه الكلمة ولذلك ورد في الخبر الصحيح أن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما لا يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب بها في عليين وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما لا يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب بها في سجين فاعلم عباده أن للمتكلم مراتب يعلمها السامع إذا رمى بها العبد من فمه لم تقع إلا في مرتبتها وإن المتلفظ بها يتبعها في عاقبة الأمر ليقرأ كتابه حيث كان ذلك الكتاب فعبد السميع هو الذي يتحفظ في نطقه لعلمه بمن يسمعه وعلمه بمراتب القول فإن من القول ما هو هجر ومنه ما هو حسن وإذا كان هو السامع فينظر في خطاب الحق إياه أما في الخطاب العام وهو كل كلام يدركه سمعه من كل متكلم في العالم فيجعل نفسه المخاطب بذلك الكلام ويبرز له سمعا من ذاته يسمعه به فيعمل بمقتضاه وهذا من صفات الكمل من الرجال ودون هذه المرتبة من لا يسمع كلام الحق إلا من خبر إلهي على لسان الرسول أو من كتاب منزل وصحيفة أو من رؤيا يرى الحق فيها يخاطبه فأي الرجلين كان فلا بد أن يهيئ ذاته للعمل بمقتضى ما سمع من الحق كما فعل الحق معه فيما يتكلم به العبد في نجواه نفسه أو غيره فإن الإنسان قد يحدث نفسه كما قال أو ما حدثت به أنفسها وهو تنبيه إن المتكلم إذا لم يكن ثم من يسمعه لا يلزم من ذلك أنه لا يتكلم فأخبر إن نفسه تسمع وهو متكلم فيحدث نفسه فيما هو متكلم يقول وبما هو ذو سمع يسمع ما يقول فعلمنا إن الحق ولا عالم يكلم نفسه وكل من كلم غيره فقد كلم نفسه وليس في كلام الشي‏ء نفسه صمم أصلا فإنه لا يكلم نفسه إلا بما يفهمه منها بخلاف كلام الغير إياه فلا يقال فيمن يكلم نفسه أنه ما يفهم كلامه كيف لا يفهمه وهو مقصود له دون قول آخر فما عينه حتى علمه وما له تعيين كلام غيره وكذلك قد يكون ذا صمم عنه إذا لم يفهمه لأنه لا فرق بين الصمم الذي لا يسمع كلام المخاطب وبين من يسمع ولا يفهم أو لا يجيب إذا اقتضى الإجابة ولهذا قال الله فيهم إنهم صُمٌّ ف لا يَعْقِلُونَ ومن عقل فالمطلوب منه فيما أسمعه أن يرجع فلا يرجع فمن تحقق بهذه الحضرة وعلم إن كلامه من عمله وإن الله عند لسانه في قوله قل كلامه حتى في نفسه به والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!