كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار
للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
![]() |
![]() |
حكمة
قال إبراهيم عليه السلام: واِجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ ، قالوا: الثناء الحسن.
لما قدّم بزرجمهر إلى القتل قيل له: إنك في آخر وقت من أوقات الدنيا، وأول وقت من أوقات الآخرة، فتكلم بكلام تذكر به. فقال: أي شيء أقول؟ الكلام كثير، ولكن إن أمكنك أن تكون حديثا حسنا فافعل.
وأنشدن بعض إخواننا قال: أنشدنا أبو القاسم بن فيرة الشاطبي قال: أنشدنا أبو العباس أحمد بن مسعود القيسي قال: أنشدنا أبو عامر بن حبيب، عن أبي الحسن بن مفوز، عن أبي عامر بن عبد البر، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن الفرضي لنفسه:
ما يشتهي قرب السلاطين غير ضعيف العقل مغبون
لا تكذبن عنهم فما صحبهم منهم على دنيا ولا دين
دنياهم بالخزي موصولة فلا تسل عن دين مفتون
لا رأي لي في نيل دنياهم حسبي بأن يسلم لي ديني
أخبرني بعض الحكماء قال: شكى رجل إلى أياس بن معاوية كثرة ما يهب، ويصل به الناس، و ينفق. فقال: إن النفقة داعية الرزق. وكان جالسا على باب فقال للرجل: أغلق هذ الباب، فأغلقه، فقال: هل يدخل فيه الريح؟ قال: لا. قال: فافتحه، ففتحه، فجعلت الرياح تخترق في البيت. فقال: هكذا الرزق، أغلقت فلم يدخل الريح، فكذلك إذا أمسكت لم يأتك الرزق.
حدثن بعض شيوخنا قال: تنازع في الضيافة رجل عربي وآخر فارسي. فقال الأعرابي: نحن أقرى للضيف. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأن أحدنا لا يملك إلا بعيرا، فإذا
حلّ به ضيف نحره له. فقال الفارسي: فنحن أحسن مذهبا في القرى منكم. قال: وما ذاك؟ قال: نحن نسمي الضيف مهمان ومعناه أنه أكبر من في المنزل و المكان.أخبرن عبد الرحمن بن ميمون، انا أبو القاسم الرعيني قال: كان شيخنا أبو محمد عليم بن هانئ العمري من أشدّ الناس انقباضا عن أهل الدنيا، وكان كثيرا ما ينشد الأبيات المنسوبة إلى الفقيه الإمام يونس بن مغيث:
أقرّ إليك من ظلمي لنفسي وسلّمني العبيد وأنت أنسي
لقاؤك مأملي وبك افتخاري وذكرك في الدّجى قمري وشمسي
قصدت إليك منقطعا غريبا لتؤنس وحدتي في قعر رمسي
وللعظمى من الحاجات عندي قصدت وأنت تعلم سرّ نفسي
قال الشاطبي: ودخلت عليه رضي الله عنه عقيب عيد الفطر فقال لي: مرّ عليّ أمس بعض الأمراء في مركب فاخر وملبس باهر والناس يغبطونه بذلك. فقلت أبياتا وهي:
محالات تجرّ إلى محال وأحوال تحول بكل حال
ملابس قد تبدّل ثم تبلى وأجسام تؤول إلى اضمحال
فناء عاجل لو يقض مرّت وكل إقامة تالي ارتحال
فما المغبوط من ركب المطايا بعزّ أو تسربل في الجمال
ولكنّ المغبّط من تردّى بثوب الذلّ رهبة ذي الجلال
فإن شئت البقاء بلا نفاد وعزّ لا يكدّر بالزوال
فمت حيا تعش حيا وميتا وتنعم بالكواعب في الظلال
وقم في الليل ويحك مستكنّا وقل يا سيّدي اسمع مقالي
حياتي في الذي تدري وموتي وجود الهجر من بعد الوصال
فنائي في بقائي لي بقاء وأن يفنى فنائي لا أبالي
أجرني أن أرى نفسي أعذني حبيبي أن يخيّل لي خيالي
وجد بالمجدّ ويحك في جهاد وبع ما شئت مبخوسا بغالي
قال الشاطبي: كان سبب موت هذا السيد أنه اضطرّ إلى الاجتماع بالسلطان في نازلة نزلت به، فسار إليه، فلما جاء البلد الذي السلطان فيه، خلا بنفسه في ليلة جمعة، فصلى بسورة فيها سجدة، فلما سجد سأل ربه الموت ولا يجتمع بالسلطان، فانقطع كلامه و هو ساجد، فرفع وهو كذلك، فلبثت يومين وهو لا يتكلم، ومات. وكان هذا الشيخ قد نهبت داره، فجعل يبكي، فاجتمع إليه الفقهاء والأدباء يصبّرونه، ويهوّنون عليه م جرى. فقال
لهم: ما أبكي لما جرى من ذهاب الدنيا، لكن فيما رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما استخف قوم بعالمهم وانتهكوا حرمته إل سلّط عليهم العدو» . وتوفي الشيخ من عامه كما ذكرنا، وسلّط العدو على البلد في العام الذي بعده، فأخذهم شر أخذة، وبقوا حديثا شنيعا على وجه الدهور. على أنه كان لهم عدد عظيم، ومدد جسيم، فلم يغن عنهم ذلك شيئا، وظهر فيهم ما ذكره الشيخ رضي الله عنه.
![]() |
![]() |





