الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


90. الموقف التسعون

قال تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾[الطلاق: 65/ 12].

اعلم أنه ماكان جهل إلاَّ بسبب التمايز، ولا كان علم إلاَّ بسبب الاتحاد، كلما كثر ما به التمايز عظم الجهل، وكلما كثر ما به الاتحاد عظم العلم، وإذ انتفى التمايز رأساً انتفى الجهل رأساً، وليس هذا إلاَّ للحق تعالى ـ،  فإنه ما علم الأشياء علماً كاملاً بحيث لا تتصور فيه شائبة جهل إلاَّ من علمها من ذا ته بذاته، لا بصفته ولا من غيره، وليس ذلك إلاَّ هو تعالى ، فإنه لما علم ذاته علم الأشياء من علمه بذاته، وعلم عين ذ ته،  أعني باطن العلم، لا ظاهر العلم. والحق تعالى من حيث الغيب المطلق، ليس داخلاً في الأشياء، فلا تطلق عليه الشيئية في مرتبة إطلاقه حتى يحيط به علم غيره أو ع لمه، أعني ظاهر العلم. فإن حقيقة الشيء هو ما يصح أن يعلم وأن يخبر عنه، فإن الذات لا تعلم لإطلاقها. ولو علم المطلق لانقلبت حقيقته، وقلب الحقائق محال، فالمطلق إذا علم ليس ذلك العلم علماً بحقيقته، وإنما هو علم بوجوهه واعتباراته لا غير. فا لحق تعالى يعلم ذاته ول يحيط بها، أعني بالذات الغيب المطلق، وأعني با لعلم ظاهر العلم، فإنه أتى بالاسم "الله" الذي هو اسم لمرتبة الألوهية،  أعني "الله" المشتق لا المرتحل، ول نقص في هذا بل عين الكمال والتنزيه. وأما مرتبة التقييد، التي تعلم ولا تشهد خلاف الذات، فهي مرتبة الألوهية، فإنه يعلم ذاته المقيدة بصفات الألوهية ويحيط بها ع لماً، بمعنى أنه يعلم وجود ذاته المطلقة واعتباراتها لا حقيقتها، وهو في هذه المرتبة داخل في الأشياء التي أحاط بها علمه، وهي المسماة بظاهر الوجود وبالأسامي الكثيرة، وكل ما دخل الوجود فهو متناه، تضحّ الإحاطة به، وفي هذه المرتبة دخل في الأشياء، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿ {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ﴾ [الأنعام: 6/20].

فمن عرف هذا الموقف حق المعرفة زالت عنه إشكالات كثيرة، في عدة مسائل، أكثر الناس الخوض فيها، وكذا موقف "إلاَّ أنه بكل شيء محيط" السابق. فالعلم حقيقة واحدة لا تتجزأ ولا تتعدد، وكل معلوم له حقيقة واحدة، فما يعلم من كل معلوم إلاَّ الوجود والاعتبارات، فتعدد العلم ونسبة الكثرة إليه إنما هو بحسبها لا غير. فإذا تعلق علم زيد مثلاً بعشرين وجهاً لحقيقة من الحقائق، وتعلق علم عمرو بعشرة؛ يقال: علم زيد أكثر من علم عمرو. والحدود الموضوعة للأشياء إنما هي وجوه له واعتبارات ولوازم، فلا تعلم الحقائق بالحدود فافهم ترشد، والسلام.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!