الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


87. الموقف السابع والثمانون

روى مسلم أنه (صلى الله عليه وسلم) : قال: ((إِنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلاَ إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ)).

فمن بعض ما دلَّ عليه هذا الخبر من المعاني أنه تعالى ـ، لا ينظر، بمعنى: لا يبالي، ولا ي توجّه بنظر خاص نظر عناية، فهو تعالى يرى ويبصر جميع الأشياء حال عدمها وحال إيجادها، ولكنه لا ينظر إليها، بمعنى يتوجّه إليها توجهاً خاصاً بنظر مخصوص ورؤية مخصوصة، بخير أو شر، إلاَّ إذا أراد ذلك. وهو معنى الحديث الآخر، إن لله كذا وكذا نظرة في اليوم إلى القلب.

وقوله: "إلى أجسادكم" يعني إذا كان الجسد مثلاً في المسجد والقلب في السوق، أو في الضيعة، أو كان الجسد في أحد الأماكن الشريفة، مكة أو المدينة، أو بيت المقدس، والقلب في غيرها من المشرق أو المغرب، فلا ينظر الله تعالى إلى الجسد، بمعنى أنه لا يبالي به حتى يتوجّه إليه بالنظر الخاص والرؤية الخاصة، ليفيض عليه من خيراته، وأنواع كراماته وتجلياته.

وقوله: "ولا إلى صوركم"، يعني لا يبالي بها إذا كانت جميلة كاملة، أو كانت قبيحة ناقصة، فإنه تعالى ما رتّب على ذلك خيراً ولا شراً، ول ثواباً ولا عقاباً، ولا كرامة ولا إهانة، إذ الإنسان، ما حصل له الشرف على جميع المخلوقات، بحسن شكله وصورته، فإن الصورة في الحائط أو الورق مثله، ولا بكبر جسمه، فإن الفيل أكبر منه ولا بشجاعته فإن الأسد أشجع منه، ولا بكثرة نكاحه فإن أخسّ العصافير أكثر سفاداً منه، فماكان له الشرف إلاَّ بإنسانيته، وهي قلبه:

عليك بالنفس فاستكمل فضائلها             فأنت با لقلب لا بالجسم إنسان

ولذا قال: "وإنما ينظر إلى قلوبكم" لأنها هي الإنسان الحقيقي، وهي محل تجلّي الحق تعالى ـ، وهي التي وسعته: بالعلم، والمعرفة، والظهور بالأسماء والصفات، كما قال تعالى: «ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن».

ولا يسعه تعالى إلاَّ علمه، فالقلب هو علم الحق تعالى ـ، فا فهم وتفطن للرمز المرموز، والسرّ المكنوز، فمعنى نظره تعالى للقلوب: أنها هي التي يبالي بها، ويتوجّه بالنظر الخاص إليها للإسعاد والإكرام بالعلوم وأنواع الكرامة، أو للإشقاء والإبعاد والحجاب وأنواع الإهانة، فلا يقبل الحق تعالى الأعمال الصالحة إلاَّ تبعاً للقلوب.

ولا يعاقب على الأعمال السيئة إلاَّ مع القلوب. فإن القربات لا تكون قربة إلاَّ مع النيَّة "إنما الأعمال بالنيات" وهي القصد بمعنى حضور القلب المستلزم لحضور الرب. وكذلك السيئات، لا تكون سيئة حقيقة في الدنيا والآخرة إلاَّ مع القلب. ولذا ورد في الصحيح: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهو عليه».

يعني رفعت المؤاخذة عليه من جهة الحق تعالى ، لعدم معيّة القلب. وإن كانت تسميتها سيّئة، و المؤاخذة بها في الدنيا حاصلة، وفي قوله تعالى: ﴿قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ﴾[يوسف: 12/ 59. 12/ 60].

إشارة إلى هذا، أي قال الملك الحق تعالى لإخوة يوسف (الجوارح) ائتوني بأخ لكم (بنيامين، القلب) من أبيكم (الروح الكلي الجامع بينكم في النسب) لا ترون أني أ وفي الكيل (لمن جاءني بمطلوبي منه، فأعطيه حقّه، وأتفضّل عليه بم لا قيمة له) فإن لم تأتوني (أيها الجوارح) به (بنيامين القلب)، الذي هو مطلوبي ومحل نظري منكم، فلا كيل لكم عندي (ولا تصلون إلى مطلوبكم منّي، إذ لم أصل إلى مطلوبي منكم) فمعنى:

﴿ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي﴾.

أي لا تستحقون ولا تستأهلون العلوم والأسرار، حيث ليس لكم استعداد لحملها. وإنما المستعد المتأهل لها بالقوة القلب. وكذلك الآية قبلها وهي قوله تعالى: (الملك):

﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّ كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنِّ لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ﴾[ يوسف:12/ 54 – 56].

أي قال الملك (الحق) للجوارح (الموكلين ب السجن) وهو الجسم الطبيعي: ائتوني بيوسف (القلب) أستخلصه (أجعله خالصتي ومحل سري وعيبتي)، وأرفع عنه الحجاب، وأكشف له النقاب، وأخصه برؤيتي، وأبسط يده في مملكتي، فلما كلّم الملك (الحق) يوسف (القلب) كلام الحجب وزوال البين، و اتحاد العين بالعين) لدينا مكين (ثابت المنزلة متمكن في مرتبتك الرفيعة أمين على أسرارنا، فعيل بمعنى مفعول)، فلما سمع يوسف (القلب) الخطاب، وذاق لذته،  وطرب وطاب، وشره وطمع، مثل الكليم لما سمع، قال: اجعلني متصرّفاً في أعطياتك، وخليفة على خزائن كنوز النفوس الأرضية، أتصرف فيها بأمرك، وعلى مقتضى إرادتك وحكمتك، إني حفيظ لها من الفساد، أمنعها ممن يختلسها ويغتالها، من شيطان وهوى ودنيا، عليم بأحوال العطية و المعطي، فلا أ عطي من لا يستحق فأظلم العطيّة، ولا أمنع من يستحق فأظلمه ولا أعطيه فوق ما يستحق فأظلم نفسي بتضييع الوزن والعدل، فأجابه الملك الحق ورده من حضرة الملكوتية الربانية ، إلى حضرة الملك متصرفاً في النفوس الإنسانية على ما سبقت به القسمة الأزلية وتعلق العلم القديم، فقال: وكذلك مكنَّا ليوسف القلب الكامل في أرض النفوس.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!