الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


8.الموقف الثامن

قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات: 41/ 56].

أي ليعرفون، بإجماع المحقّقين من أهل الله تعالى، ويؤيده الخبر الوارد في بعض الكتب المنزلة: "كنت كنزاً مخفياً لم أعرف، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرّفت إليهم، فبي عرفوني". وقال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾[الإسراء: 17 / 23]. أي حكم. فما خلقهم إلاَّ ليعرفوه. فلا بدَّ أن يعرفوه المعرفة الفطرية التي فطر الله الناس عليها. فالحق م جهله أحد من هذا الوجه، وحكم أن لا يعبدوا إلاَّ إياه، فلا يعبدون أبداً سواه، لأنَّ حكمه نافذ لا يرد، ولا يغالب. وإنما تفاوتت معرفتهم، لتفاوت عقولهم، وإنما تفاوتت عقولهم لتفاوت استعداداتهم، والاستعدادات لا تعلّل، لأنها قديمة غير مجعولة، فهي فيض قدسي ذاتي، ما تخلّلته صفة من الصفات. ولما تعددت ظهورات المقصود بالعبادة تعدّدت الملل والنحل، لأنَّ المقصود بالعبادة التعظيم، والذلة والخضوع من كل عابد نحو من يملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، والرزق والخفض والرفع، وهذه الصفات في نفس الأمر ليست إلاَّ لفرد واحد وهو الحق تعالى وهو غيب مطلق، فكل عابد صورة من شمس وكوكب، ونار ونور، وظلمة وطبيعة، وصنم وصورة خيالية وجّن، وغير ذلك، يقول في الصورة التي عبدها: أنها صورة المقصود بالعبادة ويصفها بصفات الإله، من الضّر، والنفع، ونحو ذلك، وهو محق من وجه، لولا أنه حصره وقيده. فما قصد عابد بعبادته للصورة التي عبدها إلاَّ الحقيقة المستحقة للعبادة، وهو الله تعالى وهو الذي قضى به الله وحكم، ولكنهم جهلوا ظهورها المطلق الذي لا يشوبه تقييد ولا حصر، فجهلوها على التحقيق، وعرفوها في الجملة، وهي المعرفة الفطرية، فكل من عبد الحق تعالى م عدا الطائفة المرحومة طائفة العارفين، إنما عبده مقيداً محصوراً محكوماً عليه لأنه عرفه هكذا، حتى طوائف المتكلمين، فإنهم حكموا عليه بأنه على كذا، فحكموا عقولهم في الحق. والعقل ليس عنده إلاَّ التنزيه الصرف، وتوحيد ا لشرع الذي جاءت به الكتب والرسل عليهم الصلاة والسلام تنزيه وتشبيه. ولاشك أن المتكلمين من سُنّي ومعتزلي، ما حكموا على الحق تعالى بما حكموا، من إثبات وسلب إلاَّ بعد تصوُّره بصورة عقلية خيالية، فإن الحكم فرع التصور ضرورة وإن قال المتكلم: ليس للحق تعالى في عقلي صورة، فهو إما جاهل بالتصور ماهو، وإما مغالط مباهت. ولذلك تجدهم بعد حكمهم بما حكموا به يقولون: كلّ ما يخطر ببالك، فالله تعالى مخالف لذلك. مقصودهم بهذا الكلام: تبرؤهم ممّا قالوا. وقولهم هذا أيضاً حكم تلزمهم التبرئة منه. فكل طائفة من الطوائف تحصر الحق تعالى في معتقدها، وتنفي أن يكون للحق تعالى تجلّ وظهور على خلاف عقيدتها فيه، وهذا هو سبب إنكار المنكرين للحق تعالى وتعوّذهم منه يوم القيامة، فقد ورد في الصحيح:

((إن الله تعالى يأمر أن تتّبع كلّ أمة ما كانت تعبد. وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله تعالى في صورة لا يعرفونها، فيقول لهم: أن ربّكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربّنا، فإذا جاء ربّن عرفناه، فيتحوّل لهم في صورة أخرى يعرفونها فيقولون: أنت ربّنا)).

الحديث بمعناه. والصورة المذكورة في الحديث والتحول؛ إنما هي ظهورات للحقّ تعالى بما يريد أن يظهر به، وهي أعدام لا حقيقة لها ولا وجود إلاَّ في إدراك الناظر، والحق تعالى على ما هو عليه قبل الظهور والتجلي لا يلحقه تغيير عما هو عليه كسائر تجلياته في الدنيا والأخرى. ولقد صدقوا في إنكارهم له أولاً، وفي إقرارهم به ثانياً. والمتجلّي واحد أولاً وثانياً، ولكن تجلّى لهم أولاً في صورة ما كانوا عرفوه عليها في الدنيا ولا اعتقدوها ولا تخيلوه فيها. وما عرفه كل واحد من المنكرين إلاَّ محصورًا مقيدًا بالصورة التي تخيله عليها في الدنيا، وحكم عليه بأنَّه لابَّد أن يكون كذا، ولا يكون كذا. وما عرفه أحد منهم مطلقًا غير محصور في معتقد ولا مقيّد بصورة لا يتجلى بغيرها. فهو تجلى بالصورة، أي الصورة التي كانو تخيلوه عليها في الدنيا، أقروا به أنه ربهم، وهو تعالى المتجلي أولاً وثانياً، فما عرف أحد من المنكرين المتعوذّين الحق تعالى من حيث الإطلاق، وإنما عرفه من حيث تقييده بصورة معتقده، صوّر تلك الصور بعقله، واعتكف عليها يعبدها. ولولا إذن الشارع في تخيّل المعبود وقت العبادة، لقلنا لا فرق بين من ينحته بيده ويصوره وبين من يصور بعقله، لكن الشارع أذن في الصورة الخيالية، ومنع الصورة الحسية، وهو الصادق الأمين، قال في حديث الإحسان: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ)).

أي تتخيله كأنه في قبلتك مثلاً، وأنت بين يديه حتى تتأدب في عبادته، ويحضر قلبك فيه. فالأمر ورد بهذا التخيل ربطاً للقلوب في الباطن، عن الخوض والتشتيت، كم ربط الأجسام باستقبال القبلة في الظاهر، ربطاً للأجسام عن الالتفات والحركات.وم أمر هذا المتخيل للحق تعالى أن يقيده عنده، ولا يكون عند غيره، وأنه محصور في قبلته، ولا يكون في قبلة غيره ولا أن يحصره في ذلك المتخيل دون غيره، من الصور المتخيلات، فإنه تعالى مطلق في حالة التخيّل عن التخيّل، فهو المطلق المقيد لأنه عين المطلق والمقيّد، فهو عين الضدين، والعارفون رضوان الله تعالى عليهم ، عند هذا التجلّي والتحول في الصور في الآخرة، ساكتون لا يتكلمون ولا يعرّفونه لأحد كما هم اليوم في الدنيا، لأنهم عرفوه في الدنيا بالإطلاق الحقيقي، حتى عن الإطلاق لأن الإطلاق قيد. وعلموا أنه تعالى المتجلّي الظاهر بكل صورة حسية، أو عقلية، أو روحانية، أو خيالية، وأنه الظاهر، الباطن، الأول، الآخر، فما أنكروه في الدنيا، ولا ينكرونه في الآخرة، في أي تجلّ ظهر. ولهذا قال بعضهم في العارفين: هم غداً، كما هم اليوم إن شاء الله.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!