الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


73. الموقف الثالث والسبعون

قال (صلى الله عليه وسلم): ((رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)).

أخرجه البيهقي، وفي رواية: "رجعتم" خطاباً لأصحابه الكرام (رضوان الله عليهم) وفي رواية:

«رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الغزوة الكبرى».

يريد (صلى الله عليه وسلم) بالجهاد الأصغر جهاد الكفار بالأبيض والأسمر. وبالجهاد الأكبر جهاد النفس بالتزكية والتخلية والتحلية. وإنما سمّى (عليه السلام) جهاد الكفار بالأصغر، مع أن فيه إهلاك النفس، وتفويت الحياة الحاضرة رأساً، إذ الغالب على من انغمس في العدو ورمى نفسه بينهم، الموت، إلاَّ القليل النادر، ولذا ما عرف بالشجاعة وذكر بالإقدام مع كثرة المقاتلين إلاَّ القليل. وإنما سمّى عليه الصلاة والسلام جهاد النفس بالأكبر، مع أن الغالب فيه عدم تفويت الحياة الحاضرة بالموت، وإنما هو تفويت راحة وشهوات، وتهذيب أخلاق، وتبديل أحوال ذميمة بأخلاق جميلة.

فإمَّا أن يكون ذلك لكون جهاد العدو الكافر لا يكون خالصاً مخلصاً من الشوائب المفسدة والحظوظ المبعدة إلاَّ بجهاد النفس وتهذيبها وتزكيتها. وإلاَّ فل يخلص جهاد المجاهد، بل ولا عمل من الأعمال الصالحة مادامت النفس حيّة متلطخة بالخبائث، فجهاد النفس أكبر، لكونه شرطاً في صحة جهاد العدو الأكبر، والشرط مقدّم، فهو أكبر من المشروط، لأن قبوله وصحته بوجوده مربوط.

وإمَّا أن يكون (عليه السلام) سمَّى جهاد العدو الكافر أصغر، باعتبار مقتحميه الخائضين فيه. فإنه ليس كل من قاتل مجاهداً حقيقة. لأن مصابرة العدو تكون من البرّ والفاجر، بل ومن المنافق والكافر. وانظر جوابه (عليه السلام) للذي قال له:"يا رسول الله!! الرجل يقاتل حميّة، والرجل يقاتل ليرى مكانه، والرجل يقاتل ليذكر...."الحديث. وهو في صحيح البخاري، فأجاب (عليه السلام): بأنمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله. فهؤلاء أصناف تلبسو بالجهاد ظاهراً، وليس المجاهد حقيقة إلاَّ واحداً. فما كل مُقاتل للعدو الكافر سعيد، ولا كلّ مقتول فيه شهيد. وقضية قزمان الواردة في الصحيح أكبر دليل. وأمَّ جهاد النفس الذي سماه (صلى الله عليه وسلم) أكبر، فهو جهاد مخصوص بقوم مخصوصين، اهتدو بأنوار الهداية، وسبقت لهم من الحق العناية، فلا يخوض غمرات هذا الجهاد إلاَّ موفق سعيد، يمشى على الأرض حيَّاً وهو شهيد. ففي الحديث إشارة إلى أن جهاد الكفار ل يميز المقتول عند الله تعالى المرضي من المغضوب عليه الشقي، بخلاف الجهاد الأكبر، فإنه عنوان السعادة، والسبب في حصول الحسنى والزيادة، فلا يتلبس به إلاَّ مؤمن تقي، وصدّيق صفّي، فهو لهذا أكبر.

وإما أنه (عليه الصلاة والسلام) سمّى جهاد الكفار أصغر، لكون جهاد الكفار وقتلهم ليس مقصوداً للشارع بالذات، إذ ليس المقصود من الجهاد إهلاك مخلوقات الله وإعدامهم، وهدم بنيان الرب تعالى ، وتخريب بلاده؛ فإنه ضد الحكمة الإلهية. فإن الحق تعالى ما خلق شيئاً في السموات والأرض وفي ما بينهم عبثاً. وما خلق الجن والإنس إلاَّ لعبادته، وهم عابدون له، عرف ذلك من عرفه، وجهله من جهله. وإنما مقصود الشارع دفع شر الكفار وقطع أذاهم عن المسلمين، لأن شوكة الكفار إذا قويت أضرّت بالمسلمين في دينهم ودنياهم، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ﴾[الحج: 22/ 40].

وقال تعالى: ﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾[البقرة: 2/ 251].

وإهلاك المفضول للإبقاء على الفاضل عين العدل والحكمة، كقطع العضو المتآكل، مع عصمته، للإبقاء على البدن كله. فلو فرض أنه لا يلحق المسلمين أذى من الكافرين، ما أبيح قتلهم، فضلاً عن التقرب به إلى الحق تعالى . ولذا لا يجوز قتالهم قبل الدعوة إلى الإسلام، ثم إلى الجزية، فإن أطاعوا بالجزية حرم قتالهم. وما ذلك إلاَّ أنَّ السلامة من شرهم وأذاهم صارت محققة. ولذا لا يجوز قتل النساء والصبيان الذين لم يلغوا الحكم، ولا الرهبان. بخلاف جهاد النفس وتزكيتها، فإنه مقصود لذاته، إذ في جهادها تزكيتها، وفي تزكيتها فلاحها ومعرفة ربها. والمعرفة هي المقصودة بالحبّ الإلهي في الإيجاد:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 51/ 56].

قال ابن عباس: إلاَّ ليعرفوني، إذ العبادة فرع عن المعرفة، ولا ريب أن المقصود لذاته أكبر من المقصود لغيره.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!