الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


68. الموقف الثامن والستون

قال تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: 7/ 143].

قد أكثر الناس الكلام في هذه الآية، من علماء الرسوم، والعارفين أهل الوجد والشهود. والذي ورد به وارد الحق تعالى عليَّ: أنَّ موسى (عليه السلام) رأى علو مقامه عند ربّه، بسماع كلامه وغير ذلك فحمله ذلك على طلب رؤية خاصة، وهي رؤية تضمحل فيها الحجب، إلاَّ حجاباً لا تتصور رؤية الحق بدونه، مع بقائه (عليه السلام) عند حصول هذه الرؤية على حالته وصحّة بنيته. وموسى (عليه السلام) وكل عارف، يعلم أن رؤية الحق تعالى تلزمها الحجب، إمَّا كثيرة، وإمَّا قليلة، وإمَّ لطيفة، وإمَّا كثيفة. ومن المحال رؤية الحق تعالى بلا حجاب، لا في الدنيا، ول في الآخرة. ولكن الرائين متفاوتون في كثرة الحجب وقلّتها، وكثافتها ولطافتها. فالعقل الأول يرى الحق من وراء حجاب واحد. والنفس الكليّة تراه من خلف حجابين وهكذا. وما رؤية محمد (عليه السلام) كرؤية غيره من الأنبياء. ولا رؤية بعض الأنبياء، كرؤية باقيهم، فإنه تعالى أخبر أنه رفع بعضهم فوق بعض درجات.

وليس ذلك إلاَّ بزيادة العلم به، ولا رؤية الأولياء كرؤية الأنبياء، ول رؤية بعض الأولياء كرؤية البعض الآخرين. فإن كلّ راء للحق تعالى إنما تكون رؤيته بحسب استعداده، والاستعدادات متباينة متفاوتة، فلا يشبه استعداد استعداداً، وهذ هو الوسع العظيم.

وانظر قصة المريد الذي قيل له: هلا ذهبت تنظر أبا يزيد؟ فقال: لا حاجة لي أن أنظر أبا يزيد، فإني أنر الحق تعالى . ثم اتفق ذهاب هذا المريد إلى أبي يزيد، فلما وقع بصر المريد على أبي يزيد، خرَّ ميتاً!! فقال أبو يزيد: كان هذ المريد صادقاً في رؤيته الحق تعالى ولكن كان يراه على حسب استعداده، فلما وقع بصره عليَّ رأى الحق تعالى بحسب استعدادي وبما هو متجلّ به علي، فلم يقدر، فمات.

فلما سأل من ربه ما سأل، أجابه الحق تعالى بأنه لا يقدر على الرؤية، حسب سؤاله، لا هو، ولا ماهو أقوى منه شدَّة وأشد بنية كالجبال التي هي صخرة، فتجلى الحق تعالى للجبل ولموسى، فما استقر الجبل، ولا ثبت موسى، فتدكدك الجبل، وخرَّ موسى صعقاً، جسماً وروحاً. وقد ورد في الصحيح عنه (صلى الله عليه وسلم) أنه قال:

((إنَّ الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أصعق فأفاق قبلي؟.. أم جوزي بصعقة الطور؟».

وصعق القيامة للأرواح. وإنما كان الدك للجبل، والصعق لموسى، لأن استعدادهما لا يقوى على هذه الرؤية المخصوصة التي سألها موسى (صلى الله عليه وسلم) ـ فقال: ﴿ لَن تَرَانِي﴾[الأعراف: 7/ 143].

بمعنى لا تطيق رؤيتي على الحالة التي سألتها من قلة الحجب ولطافته وبقائك على حالتك من غير تغير، فالمنفي هو الرؤية المقيّدة المخصوصة بما ذكر، وأم الرؤية فهي ثابتة حاصلة له (عليه السلام) ولولا حصول الرؤية له ما خرَّ صعقاً، فسؤاله مقبول من جهة حصول الرؤية،  وغير مقبول من جهة حصول الصعقة، وفساد البنية، وتغيير النظام. وما أمر الحق تعالى موسى (عليه السلام) بالنظر إلى الجبل إلاَّ تسلية وإعلاماً بالمعاينة، أن عدم الثبات، واضمحلال التركيب، عند هذا التجلّي المخصوص ليس خاصاً به، بل هو له، ولمن هو أشد وأقوى بنية. ومن زعم أن موسى (عليه السلام) لم ير الحق تعالى وأن الجبل رآه، إذ ل يمكنه إنكار رؤية الجبل له تعالى لأن الآية نصّ في إثباتها للجبل، فقد جعل الجبل أكرم على الله تعالى من موسى، وكفى بهذا جهلاً.

وتوبة موسى (عليه السلام) إنما كانت من سؤاله مالم يؤذن له فيه، ول يقوى عليه، ومَقامه السامي يقضي أن هذا سوء أدب مع الحق تعالى وحسنات الأبرار سيئات المقربين، وإيمانه إنما كان بأنه لا يرقى أحد فوق استعداده في رؤية الحق تعالى وأوَّليته في هذا الإيمان بالنسبة إلى ملّته، وأهل شريعته، الذي هو رسولهم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!