الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


50. الموقف الخمسون

قال تعالى: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ﴾ [الأنفال: 8/ 17].

اعلم أن نسبة الفعل الصادر في بادئ الرأي من المخلوق، جاءت متنوعة في الكتاب والسنة، فمرة جاءت نسبة الفعل إلى المخلوق، ومرة إلى الله تعالى بالعبد، فأمَّا نسبته إلى الله فمن جهة أنه الوجود الحق، والفاعل الحقيقي. وأم نسبته إلى المخلوق فمن جهة أنه مصدر الفعل في الحس. وأما نسبته إلى الله بالمخلوق فمن جهة أنه آلة الفعل، كآلة النجار والحداد. والفاعل هو الصناع لا الآلة. وأم نسبته إلى المخلوق فمن جهة أن المخلوق مظهر، وتعين للحق، والحق غيب، والمخلوق شهادة. وفعل المخلوق في الحقيقة سواء أكان حيواناً أو إنساناً أو ملكاً أو غير ذلك، هو فعل الله تعالى وفعل المخلوق من حيثية واحدة ولا حلول ولا اتحاد. إذ اسم المخلوق إنساناً أو غيره شامل لظاهره وباطنه. وباطنه باعتبار هو الوجود الحق، وظاهره باعتبار هو الصورة المحسوسة، التي هي أحكام الاستعدادات الثابتة وأحوالها، وهي معان ظهرت في صورة محسوسة، كما تتصور المعاني يوم القيامة، وفي البرزخ، صوراً محسوسة تتكلم وتوزن، كما ورد في الأخبار الصحيحة. فمن كان شهوده مقصوراً على الحس قال الفعل للعبد ولابد، يعني الصورة الظاهرة المحدودة المقدرة. ومن كان شهوده مقصوراً على أنَّ الكمال والقدرة على الفعل لا يكون إلا لله تعالى ـ، قال الفعل لله تعالى ولابد، يعني الأمر الغيبي، ولا مدخل للصورة المشكلة المحسوسة إلاَّ من جهة الكسب. وكلا الطائفتين يرى أنَّ الحق تعالى مُباينٌ للعبد ومنفصل عنه، فيلزمه ولابدَّ أن الحق في جهة من جهات العبد لا محيص له عن ذلك. ،من كان كاملاً عارفاً بالحقائق ذا عينين، قال الفعل للحق تعالى من حيث هو فعل العبد، وفعل العبد من حيث هو فعل الرب، إذ ليس في نفس الأمر إلا الوجود الحق الظاهر بأحكام الأعيان الثابتة التي هي نسب الوجود واعتباراته تستر بها، وتسمى باسم العبد والمخلوق، وتُوصف بأوصافه في هذه المرتبة، وهذا الظهور، ومن عجَبٍ أن الظهور تستر والتستر ظهور، وفي هذا المجلي عميت العقول، فتباينت مداركها وأخطأت في كل ما تقول، من قدري وجبري وكسبي وجزء اختياري، فلا طائل تحتها عند السبر والتحقيق ودفع التشغيب والتفريق. وقد قال إمامنا وأستاذنا أبو حامد الغزالي، أن مسألة نسبة الفعل الصادر من العبد إلى الله تعالى أو إلى العبد، لا يرفع إِشكالها شرع، يعني الأدلة الشرعية، ول عقل ولا كشف، ونحن والمنة لله رفع عنا إشكالها بالكشف، مع أننا نعلم يقيناً أن كشف الشيخ أتم وأعلى بما لا نسبة بيننا وبينه، والله أعلم بمطمح نظر الشيخ.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!