الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


371. الموقف الواحد والسبعون بعد الثلاثمائة

سألني بعض الأخوان عن معنى ما نقله الشيخ عبد الغني في شرح رسالة الشيخ أرسلان الدمشقي، وهو: قد أشار الشيخ أبو مدين رضي الله عنه إلى مقام المؤمن ومقام العارف بقوله من أبيات له:

عرفنا بها كل الوجود ولم نزل

إلى أن بها كل المعارف أنكرن

فقوله، عرفنا بها كل الوجود: هذا مقام المؤمن الذي ينظر بنور الله، وقوله «بها كل المعارف أنكرنا». هذا مقام العارف الذي ينظر به تعالى إليه، ومن مقام العارف قول من قال: ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله وبعده وفيه. فمن رأى الله تعالى قبل كل شيء احتجب به تعالى عن رؤية كل شيء، وهو مقام العارف. ومن رأى الله ـ تعالى بعد كل شيء احتجب به تعالى أيضاً، لكن الأول أعلا لأنه نازل من عند الله، والثاني صاعد إليه، والنازل قرآن فرقان، قال تعالى: ﴿{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾[يوسف:12/2].

وقال تعالى:﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾[فاطر: 35/10].

والقرآن واحد. والكلم جمع كلمة والواحد هو المفرد الكثير، فردٌ بالقرآن كثيرٌ بالفرقان. وأما من رأى الله في كل شيء فهو العارف الجامع للحق والخلق فليس بمحجوب عن الحق بالخلق ولا عن الخلق بالحق، فيعرف بماذا الحق حق، وبماذا الخلق خلق، وبماذا الحق خلق، وبماذا الخلق حق، وبماذا الحق ليس بخلق، وبماذا الخلق ليس بحق، وبم الحق والخلق معدومان كما يعلم، وبماذا الحق والخلق معدومان، لا كما يعلم، إلى غير ذلك من العلوم التي اختص بها هذا العارف دون العارفين الذين قبله. فهذا الذي ينظر به تعالى إليه على ثلاثة أقسام، والله ولي الهداية والإنعام.

فأقول: يريد الشيخ أبو مدين أن السالك قد يكشف له عن العالم السفلي والعالم العلوي امتحاناً وابتلاء، هل يقف مع شيء مما كشف له أم لا، ومهما وقف مع شيء واستحسنه انقطع وسقط على أم رأسه وخسر الدنيا والآخرة، وهو في كشفه للعالم العلوي والسفلي ينظر بنور الله، أي نور الإيمان، جاهل بالله وبنفسه، فإذا سبقت له الرحمة وكوشف بالحقيقة ووصل فحينئذ يرجع لهذه الموجودات، ينظرها الله، أي بالمعرفة الشهودية لا بالمعرفة الإيمانية، وحينئذ ينكركل ما عرف من الموجودات بمعنى أن يراها في رجوعها لا وجود لها في نفسها، بخلاف رؤيته لها في صعوده لأنه حينئذ كان محجوباً.

قوله: ومن مقام العارف قول من قال: «ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله قبله، هذا مثل قول بعضهم يرى الخلق في الحق فيكون الحق.- ولله المثلُ الأعلى - بمثابة المرآة، والخلق بمثابة الصور الظاهرة في المرآة، لأن الناظر أول ما يقع نظره على المرآة، ثم على الصور الحاصلة في المرآة، إذ أول ما يرى من كل شيء وجوده، عرفه من عرفه وجهله من جهله وهو من العارفين.

قوله: وبعده، هذا مثل قول بعضهم يرى الحق في الخلق يكون الخلق بمثابة المرآة، والحق تعالى بمثابة الصورة في المرآة، ومن المعلوم أن نظر الصورة في المرآة متأخر عن نظر المرآة، وهو من العارفين أيضاً، ونظره صحيح لكنه أحط مرتبة لما بيَّنَه الشيخ بعد قوله عن الآخر. ومثل قول بعضهم أيضا: يرى الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة، بمعنى أن الكثير يتوحّد والواحد يتكثّر.

قوله: فيعرف بماذا الحق حق، يعني بأي جهة واعتبار هو حق، فيعرف الحق بإطلاقه ووجوب وجوده وإعطاؤه الوجود للمسمى غيرا أو سوى.

قوله: وبماذا الخلق خلق، يعني بتقييده وجواز وجوده وحدوثه.

قوله: وبماذا الحق خلق، يعني بظهوره بالمظاهر الحادثة المحددة المحصورة المشكلة.

قوله: وبماذا الخلق حق، يعني بقيامه بالوجود الحق وكون الظاهر عين المظهر، فبهذا الاعتبار الخلق حق. ولا يكون الشيء ظاهراً ومظهراً إلا الحق تعالى ـ من حيث ظاهر في شؤونه وأحواله، وبماذا الحق ليس بخلق، يعني لأن الحق هو الوجود المطلق، وهو غيرمقيد ولا محدود ولا محصور، والخلق ليس هذا شأنه.

قوله: وبماذا الخلق ليس بحق، يعني لأنه محصور محدود مقيّد مشكل، والحق ليس هذا شأنه.

قوله: وبماذا الحق والخلق موجودان كما يعلم، يعني أن هذا العارف يعرف بأي وجه واعتبار الحق موجود، أي وجود لأنه يشهد الصورة الرحمانية التي هي غاية وصول العارفين. ولا يعرف من الوجود الحق الإلهي، وبماذا الحق موجود، كما يعلم، يعني أن نسبة الوجود إلى الخلق هو ظهور وجود الحق بشؤون الخلق وأحكامهم. وقد يسمي نفسه في هذا الظهور بالخلق.

قوله: بماذا الحق والخلق موجودان لا كما يعلم، يعني أن هذا العارف يعرف أن الحق من حيث الكنه والحقيقة التي هي الغيب المطلق لا يعلمه نبي ولا ملك ولا أول مخلوق، فلا يعلم منه إلا الوجود فقط. ولذا نقول: الحق ما عرفه أحد من وجه، ول جهله أحد من وجه، وعرفه البعض من وجه. ويعلم أيضاً هذا العارف أن وجود الخلق من حيث تعلق القدرة بإيجاده واقتران وجود الحق بأحوالهم وتركيبه بما انفرد الحق بعلمه، فلا يعلمه أحد، لأنه ليس كقيام العرض بالجوهر، ولا كالظرف والمظروف ولا غير ذلك. قوله: وبما الحق والخلق معدومان، كما يعلم، يعني أن هذا العارف يعرف بأي وجه واعتبار يصح إطلاق العدم على الحق تعالى و ذلك من حيث الظهور بالمظاهر، فإذ سبق علمه بالظهور في مظهر ولم يظهر بعد فيقال: إنه معدوم. ومن هناك قال بعض العارفين: الحق تعالى نظر نفسه بنفسه في أزله فوجدها قابلة للوجوب والإمكان، يعني بقبول الإمكان بالظهور بالمظاهر، ويعرف أن الخلق معدوم من حيث أنه لا وجود له من نفسه، ولا أن أعيانه الثابتة شمّت رائحة الوجود.

قوله: وبما الحق والخلق معدومان لا كمايعلم، يعني أن هذا العارف يعرف بأي اعتبار وحيثية الحق معدوم لا كما يعلم، يعني أن علم أن الحق معدوم من حيث ظهوره بالمظاهر التي لم تظهر بعد فلا يعلم من حيث ظهوره بالمظاهر العلمية، فإنه لولا ظهوره بأعيان معلوماته ما ظهرت لها عين في العلم. فهو موجود من حيث المظاهر العلمية معدوم من حيث المظاهر الخارجية، ويعرف أيضاً، أن الخلق معدوم لا كما يعلن، لأنه وإن عرف عدمه من الحيثية السابقة، فلا يعلم عدمه من حيث أن الوجود الحق ظهر بأحكام المخلوقات وسمى نفسه بها فسمى سماء وأرضا وعرشا وأفلاكا وأملاكا وإنسان وجنّا، وهو الحق سبحانه لا غير.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!