الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


354. الموقف الرابع والخمسون بعد الثلاثمائة

أخرج مسلم في صحيحه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«استأذنت ربّي عزّ وجلّ أن أستغفر لأمّي فلم يأذن لي. واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي».

اعلم أن منع الله تعالى نبه صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأمه ليس لكونها من الأشقياء الهلكى، كما توهمه بعض العلماء الحمقى، ولكن اقتضت حكمة الحكيم أن يؤخر سعي نبيه صلى الله عليه وسلم لأمه إلى يوم القيامة بعد حصول الإيمان لها، وإن كانت من قبل حكمها حكم أصحاب الفترات. أخرج البزار في مسنده حديثاً صحيحاً صحّحه غير واحد من الأئمة ما معناه « أنه تعالى يحشر أصحاب الفترات والأطفال والصغار والمجانين في صعيد واحد بمعزل عن الناس فيبعث فيهم نبياً من أفضلهم فتمثل لهم نار يأتي بها هذا النبي فيقول لهم أنا رسول الله إليكم فيقول لهم اقتحموا هذه النار بأنفسكم فمن أطاعني نجا ودخل الجنة ومن عصاني هلك ودخل النار». الحديث بمعناه.

ففي هذا الحين والموقف الهائل العظيم يأذن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في السعي لأمه فتستحق الثواب العملي الذي لا تنال الدرجات العلى في الجنان والمقامات الزلفي إلا به، وهو الإيمان فإنه أعظم الأعمال. لا يقال الآخرة ليس فيها تكليف ولا عمل، لأنّا نقول عدم التكليف في الآخرة إنما هو بعد دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وأما قبل ذلك فيكون على مقتضى الحديث الذي ذكرناه، والتكليف بالسجود كما قال تعالى:﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ﴾[القلم:68/42].

وقول النووي رضي الله عنه في شرح هذا الحديث: فيه جواز زيارة قبر المشرك، ليس هذا القول منه خروج عن قول المتكلمين من الأشاعرة بنجاة أصحاب الفترة، فإن من العرب مشركين بلا شك، وأن الله سماهم في القرآن المشركين. ولكنه تعالى تجاوز عنهم وعذرهم بجهلهم لكونهم طال عليهم الأمد وبُعد زمن اسماعيل عليه السلام منهم وما بعث الله رسولاً إليهم لتقوم الحجة عليهم، فوعيد الله للمشرك وأنه لا يغفر له إنما هو في غير أصحاب الفترات، فمن بعث الله إليه رسولاً فعائد ولم يوحد أو أحدث في شركه حدثاً عظيماً كعمر بن لحي وأمثاله فإنه أول من سيب السوايب. وكان عامة العرب يظنون أنهم في ذلك على شيء صحيح فإنهم قالوا:﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾[ الزمر:39/3].

وكانوا يعرفون الله تعالى كما أخبر الله عنهم في غير ما آية من القرآن، وكانوا يلجأون إلى الله في الشدائد دون آلهتهم كماأخبر الله تعالى عنهم بقوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَ تُشْرِكُونَ ﴾[الأنعام: 6/ 40- 41].

وكانوا يقولون في تلبيتهم: ليبك لا شريك لك، لبيك إلا شريك تملكه وماملك. وكان العرب يظنون أن ما وجد عليه آباؤهم من اتخاذ الأوثان والأصنام هو من دين إبراهيم و إسماعيل عليه السلام وقد ورد في الصحيح: أن زيد بن عمرو بن نفيل والد سعيد أحد العشرة كان يقوم في قريش ويقول، يا معشر قريش! والله ما منكم أحد على دين إبراهيم غيري، وأنا لا آكل مما تذبحون على اسم أصنامكم (1). وكان ممن وحد الله تعالى بعقله فيبعث أمة وحده كقس بن ساعدة الإيادي وأضرابه. ولا حرج في القول بأن أصحاب الفترة كانوا مشركين مع اعتقاد أنهم غير مكلفين ولا معذبين. ومنذ زمن طويل قال لي وارد: ياللعجب، والدة عيسى عليه السلام اختلف فيها من الصديقية إلى النبوة، ووالدة محمد صلى الله عليه وسلم يقال أنها في النار. اللهم قنا شر عثرات اللسان وارزقنا حس الأدب إنك المفضال المحسان.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!