الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


352. الموقف الثاني والخمسون بعد الثلاثمائة

سأل بعض الإخوان عن قول سيدنا وعمدتنا الشيخ محي الدين في الباب السادس من الفتوحات: وجعل العالم في الدنيا ممتزجاً مزج القبضتين في العجنة ثم فصل الأشخاص العلماء في استخراج الخبيث من الطيب، والطيب من الخبيث، وغايته التخليص من هذه المزجة وتمييز القبضتين حتى تتفرد هذه بعالمها وهذه بعالمها كما قال الله تعالى:﴿ لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ﴾[ الأنفال: 8/37].

فمن بقي فيه شيء من المزجة حتى مات عليها لم يحشر يوم القيامة من الآمنين، ولكن منهم من يتخلص من المزجة في الحساب، ومنهم من لا يتخلص منها إلاّ في جهنم، فإذا تخلص أخرج فهؤلاء هم أهل الشفاعة، وأمّا من تميّز هنا في إحدى القبضتين انقلبا إلى الدار الآخرة بحقيقته من قبره إلى نعيم أو إلى عذاب وجحيم فإنه قد تخلص، فهذا غاية العالم، وهاتان حقيقتان راجعتان إلى صفة هو الحق عليها في ذاته، ومن هنا قلنا: يرونه أهل النار معذباً وأهل الجنة منعماً، وهذا سر شريف ربما تقف عليه في الدار الآخرة عند المشاهدة إن شاء الله، وقد نالها المحققون في هذه الدار.

فأجبت مازجاً كلامي بكلامه، لأنه من إملائه، وجعل تعالى العالم في الدنيا ممتزجاً شقيه بسعيده، إذ الحقيقة التي وجد العالم عنها ممتزجة جامعة لأحوال السعداء والأشقياء، ومن أجل ذلك مزج تعالى القبضتين في العجنة، القبضة التي قبضه من يمينه وقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، والقبضة التي قبضها من شماله وقال: هؤلاء إلى النار ولا أبالي. ثم فصل تعالى الأشخاص منها، أعني من العجنة، فدخل في هذه السعيدة من هذه الشقية من كل قبضة في أختها، السعيدة دخلت في الشقية وظهرت بأحواله والشقية دخلت في السعيدة وظهرت بأحوالها، ينشأ شقياً من حيث أنه متلبس بأحوال الأشقياء، ويموت سعيداً مؤمناً، وينشأ سعيداً من حيث أنه متلبس بأحوال السعداء ويموت كافراً شقياً. فجهلت الأحوال الصحيحة والتبست حيث ظهرت كل قبضة بأحوال نقيضتها وفي هذا تفاضلت العلماء بالله في استخراج الخبيث من الطيب والطيب من الخبيث لما أعطاهم الله تعالى من النور الكاشف عن بواطن الأشياء. وغايته ونهايته، أعني العالم، التخليص من المزجة وتمييز القبضتين السعيدة من الشقية، حتى تنفرد هذه السعيدة بعالمها عالم السعادة، وهذه الشقية بعالمها عالم الشقاء كما قال تعالى:﴿ لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ﴾[الأنفال: 8/37].

فمن بقي فيه شيء من المزجة حتى مات عليها، فإن كان فيه شيء من أحوال السعداء وأحوال الأشقياء لم يحشر يوم القيامة من الآمنين الذين لا يقفون للحساب، ولكن منهم من يتخلص من المزجة في الحساب فيكون حسابه تخليصه من المزجة، فيتيبن أنه من قبضة السعداء، ومنهم من لا يتخلص منها، أعني المزجة، إلاّ في جهنم تخلصه النار كم تخلص الفضة والذهب من الزغل، فإذا تخلص أخرج من زمان قصير أو طويل، وهؤلاء هم أهل الشفاعة الذين تشفع فيه الأنبياء والأولياء والملائكة وغيرهم من الشفعاء. وأما من تميّز هنا في الدار الدنيا في إحدى القبضتين السعيدة أو الشقية بأن مات مؤمناً ل ذنب له ولا تبعة، أو مات كافراً مشركاً انقلب إلى الدار الآخرة بحقيقته التي هو عليها، فإن السعداء مخلوقون من النعيم والأشقياء أهل النار الذين هم أهلها مخلوقون من الجحيم، فإنه قد تخلص من المزجة في الدنيا. فهذه غاية العالم وهاتان حقيقتان السعادة والشقاوة راجعتان إلى صفة هو الحق عليها في ذاته، وهي القيومية، فإنه المقوم للعالم القائم على كل نفس بما كسبت من سعادة وشقاوة، والعالم كله له نفس ومن هنا قلنا: يرونه أهل النار معذباً، وأهل الجنة منعماً، فإنه كما يشهده أهل الشهود في الدنيا خلقاً قائماً بحق وحقاً ظهراً بخلق، فإن كون العالم وجود الحق ل غير، ووجود الشيء لا يمتاز عن عينه، فلا يحس الجسم محسوساً إلا أدركه الحيواني حساً وأدركه الروح الناطق خيالاً، واتصل بالرحمن كشفاً وعلماً. وهذا سر شريف يجب ستره ويتأكد كتمه ويحرم كشفه لغير أهله في الدنيا، وربما يقف عليه في الدار الآخرة لكشفه الغطاء عن الجميع عند المشاهدة إن شاء الله، وقد نالها المحققون في هذه الدار.

وسألني أيضاً شرح قول سيدنا وقدوتنا المذكور في الباب الثامن عشر: وأم قدر علم التهجد، فهو عزيز المقدار، وذلك أنه لما لم يكن له اسم إلهي يستند إليه كسائر الآثار عرف من حيث الجملة، ثم قال: فأمعن النظر في ذلك فرأى نفسه مولداً من قيام ونوم، ورأى النوم رجوع النفس إلى ذاتها وما تطلبه، ورأى القيام حق الله تعالى عليه، فلما كانت ذاته مركبة من هذين الأمرين نظر إلى الحق من حيث ذات الحق فلاح له أن الحق إذا انفرد بذاته لذاته لم يكن العالم، وإذا توجّه إلى العالم ظهر عين العالم لذلك التوجه، فرأى أن العالم كله موجود عن ذلك التوجه المختلف النسب، ورأى التهجد ذاته مركباً من نظر الحق لنفسه دون العالم، وهو حالة النوم للنائم، ومن نظره إلى العالم وهو حالة القيام لأداء حق الحق عليه، فعلم أن سبب وجود عينه أشرف الأسباب حيث استند من وجه إلى الذات معراة عن نسب الأسماء التي تطلب العالم إليه.

فأجبت كذلك: وأما علم التهجد نفسه لا المتهجد فهو عزيز المقدار، ذلك أنه لما لم يكن له أي التهجد اسم يستند إليه كسائر الآثار الكونية، وقد تقرّر أن كل حقيقة لابد أن تستند إلى حقيقة إلهية، عرف التهجد من حيث الجملة أنّ ثم أمراً غاب عنه أصحاب الآثار، أي المؤثرات، فلم يعرفوه، فطلب ما هو الأمر الذي غاب عنه الآثار، والأثر، فأداه النظر في هذا الأمر المغيب إلى أن يستكشف عن الأسماء الإلهية هل لها أعيان وجودية خارجاً؟ أو هل هي نسب؟ حتى يرى رجوع الآثار المتأثرات، هل ترجع إلى أمر وجودي خارجي أو عدمي عقلي؟ فلما نظر رأى أنه ليست الأسماء أعياناً موجودة وإنما هي نسب معقولة، فرأى مستند الآثار إلى أمر عدمي، فقال: التهجد قصارى الأمر أن يكون رجوعي إلى عدمي، فإن الآثار كلها راجعة إلى نسب عدمية. فأمعن النظر في ذلك ورأى نفسه مولداً من قيام ونوم، فإن حقيقة التهجد النوم ثم القيام ثم النوم ثم القيام. ورأى النوم هو رجوع النفس إلى ذاتها منقطعة التدبير للبدن وإلى ما تطلبه من راحة التدبير، ورأى قيام حق الله عليه. فلما كانت ذاته، أي التهجد، مركبة من هذين الأمرين، وهما النوم والقيام نظر إلى الحق من حيث ذات الحق فلاح له أن الحق إذا انفرد بذاته لذاته لم يكن العالم لأن العالم ما كان إلاّ بميل الذات إلى الظهور، وإذا توجه إلى العالم ظهر عين العالم لذلك التوجه، فرأى أنّ العالم كله موجود عن ذلك التوجه المختلف النسب، ورأى التهجد ذاته وحقيقته مركبة من نظر الحق لنفسه دون العالم، وهو حالة النوم للنائم فبينهما شبه، ومن نظره إلى العالم، وهو حالة القيام، لأداء الحق عليه فعلم التهجد أن سبب التهجد وجود عينه، ومستنده أشرف الأسباب والمستندات من حيث استند من وجه إلى الذات معراة من نسبة الأسماء التي تطلب العالم إليه. فتحقق أن وجوده أعظم الوجود حيث أنه استند إلى الذات، وغيره من الكوائن الحادثة استند إلى الأسماء.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!