الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


350. الموقف الخمسون بعد الثلاثمائة

قال تعالى:﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾[الإسراء: 17/70].

كرّم تعالى بني آدم بكرامات كثيرة، أجلها خلق أبيهم آدم بيديه وأولاده منه، وجعل أباهم معلم الملائكة وأستاذهم، وهيّأ لهم أسباب نيل المراتب العلية والتنقل في المقامات، بخلاف الملائكة فإنهم ليس لهم هذا، إذ ما من ملك إلا له مقام معلوم لا يتعدّاه. وفضَّل تعالى آدم وبنيه على كثير ممن خلق، والمستثنى هم الأرواح الذين فوق الطبيعة الصغرى، العقل الأول والنفس الكلية. والمهيمون هم العالون الذين ما أمروا بالسجود لآدم المشار إليهم بقوله تعالى:﴿ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾[ ص: 38/75].

الذين ما دخلوا تحت الأمر بقوله: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ﴾[البقرة: 2/34 والإسراء: 17/61 وطه: 20/116].

والمأمورون بالسجود لآدم هم الملائكة الطبيعيون. وجميع الملائكة طبيعيون إلا العالون. فالمأمورون بالسجود هم من جملة المفضولين، والمفضلون هم خواص بني آدم المؤمنون والأولياء، لا مطلق بني آدم الحيوانيين. ثم أعلم أن الله تعالى ـ خلق الخلق فاختار منهم بني آدم على كثير ممن خلق، ثم اختار من بني آدم المؤمنين، واختار من المؤمنين الأولياء، والأولياء على طبقات كثرة وأنواع مختلفة، وإن جمعتهم صفة الإيمان؛ ذكر الشيخ الأكبر محي الدين رضي الله عنه منهم قريباً من مائة طبقة. واختار تعالى من طبقات الأولياء الملامية واختار من الملامية الأوتاد، واختار من الأوتاد الامامين اللذين هما كالوزيرين للقطب، واختار من الامامين الأقطاب والأفراد، فهم في مرتبة واحدة . واختار من الأقطاب الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، واختار من الجميع سيد الجميع محمد صلى الله عليه وسلم . وما من أهل مقام من المقامات وطبقة من الطبقات إلاّ فيهم فاضل ومفضول، وإن جمعهم المقام كالرسل - عليهم الصلاة والسلام - فإنهم متفاضلون لا في المقام الذي أرسلوا منه ولكن من وجوه أخر، وقد يكون المفضول من وجه فاضلا من وجه آخر، هذا في الرسل، وأما غيرهم فقد لايكون المفضول فاضلاً من وجه آخر. فمن الأولياء من تجمع له الحالات كلّه والطبقات بأجمعها، ومنهم من يحصل من ذلك ما شاء الله مما سبقت به العناية. فالأقطاب والأفراد يعدون في الطبقات كلها، فإنه إذا ارتقى إلى مقام أعلى تنتقل معه العلوم التي هي لازمة لمن دخل ذلك المقام الذي انتقل عنه إلى أعلى منه وتبقى معه، فيسمى الشخص الواحد بأسماء تلك المقامات كلّها، فيكون بدلاً وتداً إماماً فرداً قطباً إلى غير ذلك. فالقطب لا يكون إلاّ واحداً في كل زمان، وهوالذي جمع الأحوال والمقامات، إمّا قطباً بالأصالة كإدريس عليه السلام فهو القطب الأصيل، وأم بالنيابة عنه كسائر الأقطاب إلى يوم القيامة، وأما الأوتاد فهم أربعة لا يزيدون ولا ينقصون في كل زمان، وهم الوتد والإمامان والقطب وأربعتهم الأوتاد. وقد يقال الأبدال سبعة الوتد والإمامان والقطب ويدخلون معهم ثلاثة آخرين لصفة تجمعهم جميعهم، كالخضر وتد فرد، وكالشيخ الأكبر محي الدين فإنه من الأوتاد من الأفراد. وهذه المراتب التي لها تعلق وتصرف في الأكوان العلوية والسفلية كانت قبل خلق آدم عليه السلام للملائكة، ولما خلق الله آدم صارت لآدم وأولاده إلى يوم القيامة. وأم الأفراد فلا يحصرهم عدد فيزيدون وينقصون وهم المفردون سموا بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم «سبق المفردون»، وفي رواية:«طوبى للمفردين، وهم المستهترون بذكر الله تعالى » -فإنهم لا يدوم التجّلي إلا لّهم، وهم المقربون المشار إليهم بقوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾[الواقعة:56/10و11].

وقوله:﴿ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ﴾[الواقعة: 56، 88 و 89].

وقوله:﴿ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾[ المطففين: 38/28].

وفيهم يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين. والأفراد والأقطاب في مرتبة واحدة فلذا كانوا خارجين عن دائرة القطب وتصرّفه فلا يمدّهم ولا يستمدّون منه، فكان لهم شبه بالأرواح المهيمة الكروبيين فإنهم خارجون عن دائرة العقل الأول حيث أنهم وإياه في مرتبة واحدة فلا يتصرّف فيهم ولا يمدّهم ولا يستمدّون منه، فالأفراد المهيمة يأخذون عن غير واسطة، فهذا وجه الشبه بين الأفراد والمهيمة، لأن الأفراد مثل المهيمة في الغنى عن العالم وعن أنفسهم غائبون عن غير ما هاموا فيه، فإن الأفراد هم القائمون بالدين الحنيفي، وهم الحافظون لأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله ظاهراً وباطناً. فالنبي يأخذ علوم الشريعة عن الله تعالى بواسطة الملك، ويأخذ علوماً إلهية من الوجه الخاص من غير واسطة. والأقطاب والأفراد يأخذون العلوم بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذون علوماً من الوجه الخاص الذي لكل مخلوق. فالأقطاب والأفراد إذا دخلوا الحضرة القدسّية لا يرون أمامهم إل قدم نبيهم، سواء كانوا من هذه الأمة أو من الأمم السابقة. والأئمة من حيث أنهم أئمة يرون أمامهم قدمين، قدم نبيهم وقدم القطب. والأوتاد من حيث الوتدية يرون أمامهم ثلاثة أقدام قدم الإمام والقطب والنبي. والأبدال يرون أمامهم أربعة أقدام الوتد والإمام والقطب والنبي. والرسول والنبيّ قد يكون له العلم المختص بالأفراد وقد لا يكون له، فموسى عليه السلام وقت اجتماعه بالخضر عليه السلام لم يكن له علم الأفراد، ولهذا أنكر على خضر ما ظهر منه في المسائل الثلاثة، لأن الخضر كان من الأوتاد والأفراد، وجميع الأوتاد الذين بعده هم نوابه، وليس هو من الأنبياء أهل الشرائع. والأفراد ينكر عليهم ولا ينكرون أحد، فتميز النبي من الفرد بالإنكار وعدمه. ولقد غلط من نسب إلى الشيخ الأكبر محي الدين القول بنبوّة الخضر المطلقة، كيف وقد قال رضي الله عنه في الباب الثالث والسبعين في أول جواب عن أسئلة الترمذي: منزل القربة بين الصديقية ونبوّة الشرائع، فلم يبلغ التشريع من النبوة العامة ول هو من الصديقين الذي هم أتباع الرسل لقول الرسل، وهو مقام المقربين، وتقريب الله إياهم على وجهين وجه اختصاصي من غير تعمل كالقائم في آخر الزمان وأمثاله، ووجه آخر من طريق التعمل كالخضر وأمثاله. وقال في جواب السؤال الثاني عشر: ومنهم من كان سيره فيه بأسمائه، فهو صاحب سير منه، وإليه وفيه وبه، فهو سائر في وقوفه واقف في سيره، والخضر والأفراد من هذا المقام. وقال في الباب السادس ومائتين: فلا يقع التجّلي في أنوار الأرواح إلاّ للأفراد، ولهذا قال الخضر لموسى:﴿ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾[ الكهف: 18/68].

لأنه من الأفراد والأنبياء يقع لهم التجلي في أنوار وأرواح الملائكة، وليس للأفراد هذا التجلي، بل هو مخصوص بالأنبياء والرسل، وهو قول خضر: أنت على علم علّّّمكه الله لا أعلمه أنا لأنه ليس له هذا التجلي الملكي، ثم نبهه على أنه م فعل عن أمره، فإنه ليس له أمر ولا هو من أهل الأمر، وهو مقام غريب في المقامات. وقال في الباب الثلاثين: لو كان الخضر نبياً لما قال له: ﴿مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾.

ولما علم خضر أن موسى عليه السلام ليس له ذوق في المقام الذي هو الخضر عليه، كما أن الخضر ليس له ذوق في المقام الذي هو موسى عليه افترقا وتميّز بالإنكار. وقال في الباب السادس والأربعين: فالشرائع كلها علوم وهبية، وممن حصل علوم وهب مما ليس بشرع جماعة قليلة من الأولياء، منهم الخضر على التعيين. وقال في الباب الحادي والستين ومائة: قد أنكر أبو حامد الغزالي مقام القربة الذي بين الصديقية النبوة، والحق أن مقام الخضر بين الصديقية والنبوة. وقال في الباب العشرين وثلاثمائة: فالعبد العارف لا يبالي من فاته من النبوة مع بقاء المبشرات عليه، إلا أن الناس يتفاضلون فيها، فمنهم من لا يبرح في بشراه في الوسائط، ومنهم من يرتفع عنها كالخضر الأفراد، فلهم المبشرات بارتفاع الوسائط وما لهم النبوات. وقال في الباب التاسع والأربعين: فلو وقع التجلّي في صورة الخمر ظهر هذا العلم في العموم ولم يكن الإنسان في طبيعته ومزاجه على مزاج أهل الجنة لظهرت الأسرار بإظهاره إياه فأدّى ظهورها إلى فساد لقوة سلطانه في الإلتذاذ و الابتهاج في الدني ولم يظهر عليه حكمه، مثل الأنبياء وأكابر الأولياء، كالخضر والمقربين من عباده. وأما قوله رضي الله عنه في الباب العاشر وثلاثمائة: فما بقي للأولياء اليوم بعد ارتفاع النبوة إلا التعريف وانسدت أبواب الأوامرة الإلهية والنواهي، فمن ادعاه بعد محمد صلى الله عليه وسلم فهو مدع شريعة أوحى إليه سواء وافق شرعنا أو خالف وأما في غير زماننا قبل محمد صلى الله عليه وسلم فلم يكن تحجير. ولذلك قال العبد الصالح خضر عليه السلام : ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾[الكهف:18/82].

فإن زمانه أعطى ذلك وهو على شريعة من ربه. وقد شهد

له الحق بذلك عند موسى وعندنا، وزكّاه. فمراد سيدنا الشيخ محي الدين رضي الله عنه بهذا أن قول الخضر:﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾.

دعوى نبوة، ولم يكن دعوى النبوة محجوراً في ذلك الزمان، فلم ينكر عليه موسى عليه السلام قوله:﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾.

والخضر يريد بذلك نبوّة الولاية التي هي مقام القربة الفردية لا نبوّة التشريع التي هي بواسطة الملك بالأمر والنهي، فإن الخضر من أنبياء الذين يأخذون من العين التي تأخذ منها الأنبياء المشرعون.

وإنما أطلت بنقل كلام الشيخ محي الدين في مسألة الخضر لأني رأيت من يعتقد خلافه. وأما قول الحافظ بن حجر في جواب له في مسألة الخضر: يلزم أن يكون الخضر نبيّا لئلا يكون الولي أعلم من النبي، فليس بلازم، إذ اللازم أن يكون النبي أعلم من الولي بالألوهية وما تستحقه ويجب لها. وأما علم الحوادث الكونية فلا فضل فيها. وإن كثيراً من أكابر أولياء هذه الأمة أعلم بالمغيبات الكونية كأبي يزيد البسطامي وعبد القادر الجيلي ومحي الدين بن العربي وأمثالهم، من كثير من أنبياء بني اسرائيل. فاعرف هذا فإنه نافع في مقام النبوّة العلية المقدار. والمسائل الثلاث التي أظهرها الخضر عليه السلام إنما هي متعلقة بحوادث كونية لا تعلق له بالألوهية والسلام.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!