الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


335. الموقف الخامس والثلاثون بعد الثلاثمائة

قال تعالى في وصف رسله عليهم الصلاة والسلام ـ:

﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ﴾[الأحزاب: 20/39].

وقال حكاية عن موسى وهارون عليهما السلام لما أرسلهما إلى فرعون وقال لهما: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾[طه: 20/43].

وقال: ﴿إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى﴾[طه: 20/45].

فاعلم أنه لا منافاة بين الآيتين، فإن خوفهما عليهما السلام ماكان من حيث تبليغ الرسالة وإنَّما كان خوف موسى أن يقتلوه قصاصاً بالقبطي الذي قتله، وكان يرى أنهم محقّون لو فعلوا. وقد صرح بذلك حيث قال: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾[القصص: 28/33].

وقال: ﴿وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾[الشعراء: 26/14].

فإن موسى (عليه السلام) كان يعد قتله القبطي ذنباً عظيماً وما يذكر له ذنباً حين تسأله الخلائق الشفاعة يوم القيامة إلاَّ قتله القبطي. فما خاف إلاَّ من الله تعالى أن يسلطهم عليه بذنبه. فما خاف رسول من المرسل إليهم من حيث تبليغ الرسالة قط كيف وهو تعالى: يقول: ﴿إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾[النمل: 27/10].

ويقول: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ﴾[آل عمران: 3/175].

والرسل عليهم الصلاة والسلام لا ولاية للشيطان عليهم ولا سبيل له إليهم. ومنشأ الخوف من النفس الحيوانية وغلبة الطبيعة على العقل والإيمان. وهم عليهم الصلاة والسلام حيوانيتهم الطبيعية مقهورة تحت العقل والإيمان، فإنهم مؤيدون بروح القدس، وهو الروح الأمري الذي يكون به التأييد، وهو غير الروح المنفوخ في الأجسام الطبيعية، وهو الذي امتنّ به تعالى على عيسى (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾[المائدة: 5/110].

فإن قلت: قد ورد في صحيح البخاري أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ـ قال: ((ليلة: ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة، فسمعوا قعقعة السلاح، فإذ سعد)). وورد في الصحيح أيضاً أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يحرس حتى نزل قوله تعالى: ﴿رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾[المائدة: 5/67].فخرج إليهم وقال: انصرفوا فإن الله قد عصمني.

فاعلم أنه (صلى الله عليه وسلم) كسائر الرسل كان مشرعاً [قوله وفعله، فأخبره الله تعالى بعصمته بعد حصول التشريع، فكان كمالاً في كمال؛ فإن الله تعالى ببديع حكمته قد أثبت في قلوب عباده وجود الأسباب، وما كلف عباده الخروج عن الأسباب، فإن حقيقة العبد تقتضي السبب، فإثبات الأسباب أول دليل على معرفة المثبت لها بربه، ومن رفعها رفع مالا يصح رفعه. وكان يغلب على ظاهره شهود الاسم الحكيم، وهو الذي اقتضى وجود الأسباب مع شهوده دائماً في كل حال وآن، وملاحظة عظمة الألوهية وعزتها وكبريائها وغناها عن العالمين، فيلزم ضعفه وإمكانه وافتقاره، فلا يرى أضعف منه في العالم مع قوله تعالى له: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾[آل عمران: 3/128].

فلا يأمر «بكن» ولا يكوّن بأمر ولا يفعل بهمّة إلا لضرورة نادرة بأمر الله تعالى له. فلا يلزم من أمره (صلى الله عليه وسلم) بحراسته خوفه من الأعداء، وكما عصم الله تعالى رسوله محمداً (صلى الله عليه وسلم) من القتل فقد عصم جميع رسله (عليهم الصلاة والسلام) من القتل، فما قتل رسول من رسل الله ـ تعالى قط لا في الحرب ولا في غير الحرب، ولا انهزم ولا خاف غير الله تعالى ، وتخصيص بعض العلماء عدم قتل الرسول بالحرب دعوى واهية، أو قلد في ذلك ظواهر الآيات. ولو صح قتل رسول من رسول الله المشرعين ما صح قوله تعالى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾[المجادلة:58/ 21].

ولا قوله: ﴿وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ﴾[البقرة: 2/214].

فأجابهم الله تعالى: ﴿أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾[البقرة: 2/214].

ولا قوله: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا﴾[الأنعام: 6/34].

ولا قوله: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا﴾[يوسف: 12/110].

أجاءهم النصر بعد القتل؟ كلا وحاشا فما نصر من قتل، وفي صحيح البخاري في سؤال هرقل لأبي سفيان بن حر ب: هل قاتلتموه؟ قال: نعم. قال هرقل: فكيف كانت الحرب بينكم وبينه؟ قال أبو سفيان: دول وسجال ينال منّا وننال منه. قال هرقل: كذلك الرسل تبتلى ثم يكون لها العاقبة. وقد حكى تعالى قول الكفار لرسلهم: ﴿لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾[إبراهيم: 14/13].

ثم حكى تعالى ما أوحى به لرسله عليهم الصلاة والسلام عند قول الكفار لهم ذلك:

﴿لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، ولنسكننكم الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم إبراهيم﴾[إبراهيم: 14/13-14].

هذا وحي الله تعالى وإخباره لكل رسول مشرّع من لدن نوح الذي هو أول الرسل إلى محمد الذي هو آخرهم وخاتمهم، أيخلف الله وعده رسله، كلا:

﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾[إبراهيم: 14/47].

﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ﴾[الأنبياء: 21/9].

فإن قيل: قد قال تعالى: ﴿قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ ﴾[آل عمران: 3/183].

وقال: ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ﴾[المائدة: 5/70].

وقال: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ﴾[ البقرة: 2/87].

فاعلم أن المراد بالرسل المقتولين في الآيات، المعنى الأعم وهو إطلاق لفظة الرسول على مطلق النبي الذي يوحى إليه سواء جاء بشرع ناسخ لشرع من قبله من الرسل أم لا، جاء بكتاب أم لا. كما أطلقت لفظة الرسول على رسل الرسل كتاباً وسنة. وقد ذكر الله تعالى فيما نعاه على بني إسرائيل من قتلهم أنبياءهم وصرح بلفظ النبي فقال:

﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾[البقرة2/61].

﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾[آل عمران: 3/21].

﴿وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾ [آل عمران:3/112].

وكذا على القول بأن الرسول قد يخصّ بمن له كتاب أو شرع ناسخ لشرع من قبله من الرسل، والمحكي عنهم في الآيات هم بنو إسرائيل، و ما جاء نبي من أنبياء بني إسرائيل الذين بين موسى وعيسى (عليه الصلاة والسلام) بكتاب يتضمن أحكاماً تخالف أحكام التوراة، ولا بشريعة ناسخة لشريعة موسى (عليه السلام) حتى عيسى عليه السلام إنما نسخ بعض أحكام جزئية من أحكام شرع موسى (عليه السلام) ولذ قال:

﴿َلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾  [آل عمران: 3/50].

كما حكى الله تعالى عنه وباقي الأحكام كلها محال على التوراة. وقول بعض العلماء من المفسرين: الأنبياء المذكورون في القرآن كلهم رسل ليس بشيء، فإن إدريس (عليه السلام) ذكره الله تعالى في القرآن بالنبوة وهو قبل نوح (عليه السلام) بإجماع أهل الملل، ونوح (عليه السلام) أول الرسل إلى أهل الأرض كم صح في حديث الشفاعة في صحيح البخاري. وزكريا ويحيى (عليهما السلام) ليس برسولين وإنما هما من جملة أنبياء بني إسرائيل. وعيسى ويحيى (عليهما السلام) كانا في عصر واحد في أمة واحدة، وما بعث الله تعالى رسولين لأمة واحدة في زمان واحد غير موسى وهارون عليهما السلام ـ. وأما الزبور الذي أنزل على داود (عليه السلام) إنما هو مواعظ وحكم، لا أحكام فيه أصلاً، وكان داود (عليه السلام) يحكم بشريعة التوراة شرع موسى (عليه السلام) إذا عرف القرآن الكريم إذا عبر ب لزبر فالمراد الكتب المقصورة على الحكم والمواعظ، وإذا عبر بالكتاب فا لمراد م يتضمن الشرائع والأحكام قال تعالى: ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾[آل عمران:3/184].

وقال: ﴿إِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾[فاطر: 35/25].

فلفظة الرسل في هاتين الآيتين كل من يُوحَى إليه، جاء بشرع مستقل أم لا، فغير المستقل هم الذين جاءوا بالزبر كداود عليه السلام ـ، والمستقلون بشرع هم الذين يأتون بالكتاب المنير لا على اللزوم فيهما. فلما كان لفظ الرسول هنا أعم يعم الرسول المشرع والنبي غير المشرع، قال كذب وماقال قتل، فجميع أنبياء بني إسرائيل الذين بين موسى وعيسى عليهما السلام كانوا أنبياء داعين إلى التوراة وأتباع شرع موسى، فكانوا يتفقهون في التوراة فَيُفَضِّلون مجمله ويبينون مبهمه ويحلون مشكله ويؤولون متشابههعلى بصيرة وبينة من ربهم بوحي من الله تعالى إليهم، ماكانوا رسلاً مشرعين استقلالاً، كالكمل من علماء هذه الأمة المحمدية،  أهل الدوائر الكبرى من أولياء هذه الأمة. فهؤلاء الأنبياء هم الذين كانت تقتل منهم بنو إسرائيل، تارة تقتلهم الملوك لمخالفتهم إياهم وإنكارهم عليهم إذا جاروا في أحكامهم وخالفوا التوراة، ففي صحيح مسلم: ((إن بني إسرائيل كانت الأنبياء تسوسهم، كلما هلك نبي خلفه نبيّ)). الحديث يعني أن ملوك بني إسرائيل كانت الأنبياء تسوسهم فتشير عليهم بأشياء وتأمرهم بأشياء وتنهاهم عن أشياء بوحي من الله تعالى ـ، وتارة تقتلهم الغوغاء من العامة لإنكارهم عليهم المنكرات. كان الحسن البصري (رضي الله عنه) إذا رأى الغوغاء مجتمعة يقول: هؤلاء قتلة الأنبياء، فلهذه الأسباب كانت الأنبياء تقتل في بني إسرائيل.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!