الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


333. الموقف : الثالث والثلاثون بعد الثلاثمائة

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُو تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ﴾[فصلت:29/30].

إلى قوله: ﴿مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾[فصلت: 29/32].

هذه بشرى من الحق تعالى وإخبار بأن المقربين بربوبية الله تعالى ـ لهم ما في الآية، وفي ضمن ذلك الإقرار بألوهيته تعالى فإن من معاني الرب الخمسة المصلح، والمصلح هو الذي يجلب النفع ويدفع الضر وبيده ذلك، وهذا هو حقيقة الإله، فقد تضمن الإقرار بالألوهية فافهم. وقولهم هذا كان يوم أخذ الميثاق حين قال لهم: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾[الأعراف: 7/172].

وهم أعيان ثابتة تجسدوا ثم رجعوا إلى ثبوتهم ثم استقاموا على ذلك الإقرار عند إيجادهم وخروجهم إلى موطن الدنيا موطن التكليف، فآمنوا بِرُسُل الله (عليهم الصلاة والسلام ) واتبعوهم وبما أقروا به من عند الله، وأما من لم يستقم على ذلك الإقرار فما آمن برسل الله (صلى الله عليه وسلم) فهو خارج؛ وأما من لم يؤمن بالرسل فهو خارج من هذه البشرى.

﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ﴾[فصلت: 29/30].في الدني إن كانوا من الكمل خاصة الخاصة، وفي الآخرة أو عند الموت إن كانوا من عامة المؤمنين، تقول لهم الملائكة في ذلك التنزل، أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشرو بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أولياؤكم وأنصاركم في الحياة الدنيا بإلهامكم الخير والطاعات على قرنائكم الذين يوسوسون لكم بالمخالفات، وفي الآخرة لمرافقتكم تأنيساً وخدمة لكم فيما تطلبون. ولكم فيها أي الجنة ما تشتهي أنفسكم الطبيعية الحيوانية من المنكح والملبس والمركب والمسكن والمأكل والمشرب، فإن شهوة النفس الطبيعية في الآخرة أعظم منها هي في الدنيا، ولكم فيها ما تدعون، ما تقدم هو حظ النفس الطبيعية، وهذا حظ النفس الناطقة فإن اللذات الحسية حظ النفس الطبيعية، واللذات المعنوية حظ النفس الناطقة. قرأ نافع«تدّعون». بتشديد الدال من الدعوى، أي ما كنتم تدّعونه لأنفسكم في الدار الدنيا من العزة والكبرياء والعظمة وكمال العلم ونفوذ الإرادة والقدرة وامتثال أمركم وجميع الصفات الكمالية التي كنتم تدعونها لكم دعوى با طلة في الدار الدنيا، فإنها دار الحجاب، والدعاوى الباطلة. والآخرة دار الكشف ورفع الحجب. فتنكشف العزة لمن هي وبمن هي، وكذلك الكبرياء وجميع الصفات إنما يظهر حكمها في الآخرة في السعداء، فإن إرادتهم نافذة وقدرتهم غير قاصرة فلا يعجزون عن شيء ولا يريدون شيئاً إلا حضر، وكلامهم وأمرهم نافذ فلا يقولون لشيء كن إلاَّ كان. وكذلك علمهم، فإنهم في الدار الدنيا لا يشاهدون معلومهم، وفي الآخرة يشاهدونه، فإن الآخرة محل ظهور حقائق الأشياء حتى الأعيان الثابتة تظهر فيها، وكل هذا كالنزل، وهو ما يقدم للوارد عند نزوله، فهو يسير بالنسبة إلى ما يكرمون به كقوله تعالى: ((أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبداً)).

قال تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[التوبة: 9/72].

﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ﴾[التوبة: 9/21].

وكذا دعوته سبحانه وتعالى إياهم إلى رؤيته يوم الزور الأعظم في الكثيب الأبيض، كل هذا صادر من ربّ غفور كثير الغفر والستر، بصيغة المبالغة، فإنهم ما ع اقبهم على دعاويهم الباطلة في الدنيا، بل حققها لهم في الآخرة وزادهم عليها، رحيم وسعت رحمته كل شيء، حتى أسماؤه فإنه رحمها بإذنه لها في إظهار آثارها وما تقتضيه حقائقها ومعانيها، فرحم الإسم الغفار والستّار بإظهار حقيقته في الجليل والحقير فافهم.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!