الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


324. الموقف الرابع والعشرون بعد الثلاثمائة

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ﴾[المائدة: 5/54].

ماقاله المفسرون في الآية بحاله. والذي أعطاه الاعتبار والإلقاء الإلهي هو أن الآية من الآيات المخبرة بالمغيبات الآتية: أخبر تعالى أن المؤمنين يرتدون عن الجهاد وسماه ديناً هنا، وأنهم ينكصون عنه ويتثاقلون، وتظهر فيهم علامة من علامات النفاق، وهو قوله: ﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾[التوبة: 9/57].

وأخبر أنه بعد ذلك بتسويف يأتي بقوم صفتهم ما ذكر في الآية، وهو إشارة إلى المهدي وقومه، أهل القرن الرابع اللاحق بالقرون الثلاثة في الفضل، فإنهم الذين يلقي الله في قلوبهم الصدق والثبات، كما فعل ذلك تعالى بالصحابة رضوان الله عليهم ـ، وعلى أيديهم يظهر الإسلام ويحيا الإيمان ويتنفس المسلمون ومعهم تكون الملاحم العظيمة كالملحمة التي ذكرها مسلم في صحيحه، قال: ((يخرج الكفار فينهد إليهم أهل الإسلام فيقتتلون ثلاثة أيام يشترط المسلمون شرطة، فيقتتلون من الصباح إلى الليل فتفنى الشرطة ويرجع كل غير مغلوب، ثم في اليوم الثالث يشترط المسلمون شرطة، فيفتح الله على المسلمين وينهزم الكفار هزيمة ما سمع بمثلها)) .

وكذلك الملحمة العظيمة التي تكون بمرج عكا، سماها الشيخ الأكبر في الفتوحات مأدبة الله للوحوش والأطيار، فإنه لا يدفن فيها مسلم ولا كافر، وغير ذلك من الوقائع... ففضل المهدي وقومه ملحق بفضل الصحابة. وهذه الصفات المذكورة في الآية أخبرت أنه بعد الارتداد بزمان يأتي الله بقوم صفتهم كذا وكذا، فتعين أن تكون الآية أخبرت عن المهدي وقومه، والمؤمنون المؤيه بهم في الآية، هم مؤمنون حقيقة، فإنه تعالى قال لمن لم يكن دعواه الإيمان حقاً: ﴿قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُو أَسْلَمْنَا﴾[الحجرات: 49/14].

والمؤمن حقيقة لا يرتد عن الإيمان، كما قال هرقل لأبي سفيان بن حرب وقد سأله في سؤاله المشهور في صحيح البخاري: أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فقال أبو سفيان: لا. فقال هرقل: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب. فالإرتداد في هذه الآية إنما هو عن أمر واحد من أمور الدين، وهو التقاعد عن الجهاد والنكوص عنه. وسمى تعالى الجهاد ديناً تفخيماً لشأنه، كما قال (صلى الله عليه وسلم) «الدين النصيحة».

وكما سمى تعالى الصلاة إيماناً في قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾[البقرة: 2/143].

أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فكأنه تعالى قال في هذه الآية: الدين الجهاد، وإن كان للدين أ ركان غير الجهاد كما قال (صلى الله عليه وسلم) ((الحج عرفة)) .

وإن كان للحج أركان غير عرفة؛ فمن أراد أن يعرف مقام الجهاد ومرتبته في هذا الدين المحمدي فلينظر في هذه الآية ويعتبر. ومنها يعرف تشديد الوعيد في التقاعد عن الجهاد والنكوص عنه حيث أطلق على ذلك لفظ الردة عن الدين. وفي الآية الثناء الجميل، والوعد الذي هو بكل فضل كفيل، على القائمين بأمر الجهاد حيث قال: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾[المائدة: 54].

وأي منقبة أعظم ومكرمة أفخم من محبة الله تعالى للمجاهد وهي محبة خاصة بالمجاهدين، لها آثار في الدنيا والآخرة، كما أن محبة المجاهدين له تعالى محبة خاصة زائدة على محبة المؤمن غير المجاهد لظهور آثار المحبة من الجانبين. وإن كان كل مؤمن يحب الله تعالى والله تعالى يحب المؤمن وإن قل ظهور آثار المحبة من الجانبين، فالله تعالى يحب المؤمن ولو كان عاصياً مرتكباً لكبائر غير كبائر أهل القطيعة، فإن مرتكب كبائر أهل القطيعة لا يرجى له خير، ولا تسمع قول من عمّم في المعاصي كلها وفي المؤمنين كلهم فقال:

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه

هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته

 

إن المحبّ لمن يحبُّ مطيع

فهذا قائل أعجب بطاعته فانحجب بها وكفاه جهلاً قياس الغائب على الشاهد والخالق على المخلوق، كأنه ما علم قصة الرجل الذي أتى به سكران إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال رجل من الحاضرين: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به شارباً! فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ((لا تكن عوناً للشيطان على أخيك، أم علمت أنه يحب الله ورسوله))، والقصة في الصحيح فأثبت له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) محبّة الله ومحبة رسوله حالة سكره، فإذا رجع إلى عقله لا يرجع إلا إلى الإيمان، وهو محبة الله ومحبة رسوله، والإيمان بحرمة المعصية، ولذا قال بعض الكاملين: المؤمن لا تخلو له معصية من طاعة أقلها الإيمان بحرمة المعصية. لولا ظن المؤمن الجميل بربه ما عصاه، فإنّه يرجو من ربه الستر في الدنيا والغفران في الآخرة، وكيف لا يحب المؤمن رباً يستره في الدنيا من ال فضيحة ويغفر له في الآخرة؟! وأما محبة الله للمؤمن فهي من حيث أنعم عليه الإيمان الذي هو الوسيلة الوحيدة في نيل السعادة الأبدية من قبل أن يخلقه ومن قبل أن يسأله.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!