الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


31. الموقف الواحد والثلاثون

قال تعالى: ((وَلاَ يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ)).

الحديث القدسي بطوله، أخرجه البخاري ومسلم.

هذه رتبة عُلْيَا، وصاحبها غير كامل، لأنه يرى له ذاتاً ونفساً قائمة موجودة، والحق صفاتها، من سمع وبصر ويد ورجل، فنفسه عنده مقرَّرة، وأفعاله بالحق تعالى. وأعلى منه وأكمل عكسه، وهو الذي يرى نفسه صفة من صفات الحقّ، فيكون الحق وبصره، وكلامه إلى آخره. وهذا وإن كان أكمل ممّن قبله؛ ففيه بقية نقص، فإنه م انعدمت عينه جملة واحدة، وأعلى منهما معاً، من يحصل على بالفناء والمحق فإنه رجع إلى الإطلاق بعد التقييد، ولم يبق له اسم، ولا عين ولا رسم، ونودي عليه ﴿لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾[غافر : 40/ 16].﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً﴾[مريم: 19/98]. وفي هذا الفناء تحصل الرؤية الحقيقية، فإنه ما غاب عن العالم وعن نفسه إلاَّ برؤية الحق تعالى وفي الأمر نفسه الرائي والمرئي واحد والتعدد اعتباري. وما عدا هذا ممّا يقال فيه رؤية، فهو مجاز، ومن السالكين من يحصل على الفناء والمحو قبل قرب النوافل والفرائض وهو السالك المجذوب بالعناية.

وقوله: كنت سمعه إلى آخر الحديث، فيه إيماء ماهو عليه في حقيقته بأنه الحق تعالى هو السامع والسمع والمتكلم والكلام، إذ لا يصح أن يكون الحق تعالى صفة يقوم بذات العبد الحادث لأنه تعالى ذات، ماهو صفة. والذات لا تقوم بذات أخرى. فمنطوق الحديث غير مفهومة، لأنَّ منطوقه إثبات عين العبد وتقررها، ومفهومه نفي عين العبد ومحوها، وأنه ليس هنالك إلاَّ الحق تعالى هو العين والصفة، وهو الظاهر بأحكام عين العبد الثابتة في العلم والعدم، إذ العبد معدم أبداً، كما هو معدوم أزلاً. وإنما هو عبارة عن الأحكام العدمية التي ظهر الوجود الحق بها لا غير، ولا حلول، ولا اتحاد كما يفهمه العميان، ولا تأويل كما يقوله أصحاب الدليل والبرهان. وسمّى الحق تعالى نفسه في هذا الظهور وهذه المرتبة عبداً وهو العزيز الحكيم، ولا يسأل عما يفعل.

ويدل قوله تعالى : كنت سمعه، أنه تعالى سميع بذاته بصير بذاته، إلى آخر الصفات. ولا يفهم من قوله: كنت سمعه... إلى آخره، أنه لم يكن كذلك، ثم كان. وإنما المراد رفع الحجب عن هذا المتقرب بالنوافل حتى يشاهد الأمر على ماهو عليه في هذه المرتبة وهذا الظهور، لا أنه حدث ذلك بعد أن لم يكن. وفوقها مراتب، كما ذكرنا. فهو المتكلم منك لأنه لسانك، وهو السامع لأنه سمع مخاطبك، فهو المتكلم والسامع من كلّ متكلم وسامع، فتحت إشارة هذا الحديث الربّاني بحور زاخرة، ترجع العقول عنه حائرة، كأنها حمر مستنفرة، فرت من قسورة.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!