الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


293. الموقف الثالث والتسعون بعد المائتين

قال تعالى في صفة النحل: ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[النحل:16 /69].

اعلم: أن أقوال أهل الظاهر في هذه الآية ونحوها، ممّا ورد عن الشارع ك قوله: «الحبة السوداء شفاء من كل داء».

معروفة، وهي أن تنكير «شفاء» يفيد الخصوص لا العموم، من جميع الأمراض لكلّ الأشخاص، لأنه نكرة في سياق الإثبات فلا تعمّ. وإنما ذلك شفاء لبعض الأدواء، في بعض الأمزجة الخاصّة، واحتجوا على ذلك أيضاً بكلام الأطبّاء وبالتجربة. وأمَّا أهل طريق الله: فقالوا: كلّ ما ورد عن الشارع فيتلقّى بالقبول. وعموم النفع والشفاء في ذلك راجع إلى نيّة المستعمل وقوة يقينه وكمال تصديقه. فعلى قدر اليقين ينجح الاستعمال، ويحصل الظفر بالمراد، ولهم في ذلك وقائع غريبة وحكايات عجيبة رضي الله عنهم ومن ضعف يقينه، أو تردّد فليرجع إلى الأطباء، حكى العارف الكبير المرجاني، عن شيخه أبي الحسن الزيات، أنه تكلّم يوماً على حديث الحبّة السوداء، فمرض شاب من أصحابه بعينيه، فعمل له الحبّة السوداء فاشتدَّ عليه الألم أبلغ ما يكون، فقال مخاطباً لعينيه: اذهبا أو لا تذهبا، فو الله ما قال الشيخ إلاَّ حقاً، ولا نقل عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلاَّ صدقاً، فلما أخبر الشيخ بذلك قال الشيخ للحاضرين: (اجعلوا بالكم من مرض منكم بعينيه فلا يكتحل بالحبة السوداء، فإنَّ هذ ما نجّاه إلاَّ قوة يقينه). فالأمر في هذه الأدوية المأثورة عن الشارع قوة اليقين وكمال التصديق. وما ورد في صحيح البخاري.

الشفاء في ثلاث شربة عسل، وشرطة محجم، وكيّة نار وما أحب أن أكتوي، وفي رواية أخرى له: ((إن كان في شيء من أدويتكم، أو يكون في شيء من أدويتكم خير، ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار توافق الداء، وأنها أمتي عن الكي)).

فاعلم أنه ليس في كلام النبّوة اختلاف، بل كلّه في توافق وائتلاف، وإنم اختلاف العبارات لاختلاف أحوال المخاطبين. وقد بعث (صلى الله عليه وسلم) لجاهلية جهلاء، فكان يسوسهم بلطف وحكمة، وكانت العرب في جاهليتها تستشفي بهذه الثلاثة المذكورة وغيرها من التمائم والرقى والتولة والخرز والودع والأصنام وغير ذلك، ممّ فيه شرك، ولا يمكن أن يردّهم (صلى الله عليه وسلم) عما اعتادوه من الباطل واعتقدوه دفعة واحدة، ولا يبقيهم مع جميع الأسباب لما في بعضها من الشرك، وقد ورد في الخبر: «من علق تميمة فقد أشرك» وفي خبر آخر: «إن التوله من الشرك»، وفي آخر : «من علق ودعة فلا ودع الله له».

فقال لهم (صلى الله عليه وسلم) الشفاء في ثلاث، ولم يرد الحصر ول الأخبار بذلك فقط، وإنما أراد منهم ترك ماهو شرك، أو ما ظاهره شرك، وإنما اقتصر على العسل والحجامة والكي لأنه ليس فيها شرك ظاهر كما قال: ((إنَّما الشؤم في ثلاث)) . بصيغة الحصر والتأكيد، ولم يرد إثبات الشؤم في هذه الثلاثة، وإنما أخبر عما تقرّر عندهم. وكذلك هنا، أخبر عمَّ تقرّر وثبت عندهم في جاهليتهم. ثم قال لهم بعد ما رفعهم من حضيض الشرك الظاهر، وبعدم تتغير حالهم في الأشفية التي كانوا اعتادوها، والأسباب التي اعتقدوها: ((إن كان في أدويتكم خير))، يعني شفاء، فأدخل عليهم الشك في الاستشفاء بهذه الثلاثة ليعلّمهم بعد أنّ الله هو الشافي عند هذه الثلاثة، وغيرها إذا أراد الله تعالى الشفاء، وهذ مثل قوله: ((إن يكن الشؤم في شيء)) . فشككهم ليعلمهم أنه لا أصل للتشاؤم والتطيّر، لأنه قادح في التوحيد وإفراد الحق تعالى بالإيجاد والتأثير.

وقوله (صلى الله عليه وسلم) : ((وما أحب أن أكتوي، وأنهي أمتي عن الكي)) . فهي كراهة إشفاق على أمّته، لم في الكي بالنار من التعذيب، ونهي تنزيه. وقد ثبت أنه (صلى الله عليه وسلم) كوى أبّيًا يوم الأحزاب على أكحله. وكوى سعد بن معاذ، وكوى نفسه (صلى الله عليه وسلم) حكاه الطبري و الحليمين والنبيّ قد يفعل المكروه تشريعاً لبيان الجواز، فإنَّ كراهة الشيء لا تنافي جوازه.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!