الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


284. الموقف الرابع والثمانون بعد المائتين

قال تعالى: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾[الشورى: 42/23].

اعلم: أن آيات القرآن الكريم، منها ما هو مخلص للحق تعالى ، ومنه ما هو مخلص للعبد، و منها ما يحتمل الوجهين، فمثل قوله: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَ بَشَرٌ﴾[الكهف: 18/110].

﴿قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ﴾[الأنعام: 6/50].مخلص للعبد.

ومثل قوله: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾[الإخلاص: 112/ 1].

ومثل قوله: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾[الشورى: 42/23].

محتمل للوجهين، من طريق الإشارة، لا التفسير. أي: قل يا محمد لعبادي المؤمنين: لا أسألكم عليه، أي على ما بشرتكم به وأكرمتكم، في قولي: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ﴾[الشورى: 42/22].

ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإن لله على عباده أجراً، إذ فعل ما يرضيهم، وللعباد على ربّهم أجر إذا فعلوا ما أمرهم به، أوجبه الله تعالى على نفسه منّة وإفضالاً، وللعباد على ربّهم أجر من أجل العبادة، كم في قوله: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾[الشورى: 42/40].و«على» تقتضي الوجوب.

﴿ إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ أي محبّة المقربين منّي، وهم أولياء الله وخاصته الواقفون عند حدوده العارفون به وبجلاله الذين قال فيهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما يرويه عن ربّه: ((من آذى لي ولياً فقد بارزني ب المحاربة)) وفي رواية: ((فقد آذنته بالحرب))، وفي الخبر أيضاً: ((أهل القرآن أهل الله وخاصته)).

والمراد بأهل القرآن العارفون بالله، والأهل لغة هم الخاصة الأقربون، فالقربى الذين سأل الله من عباده المؤمنين مودّتهم هم الصالحون العلماء بالله. قال بعض سادات القوم في خبر: ((الأقربون أولى بالمعروف))، المراد: المقربون إلى الله، فهم أحق الناس بالمقابلة بكل معروف، وبالتحبّب إليهم بكلّ جميل. وفي القربى إلى الله قريب وأقرب، فمن كان قربه قرب النوافل فهو قريب، ومن كان قربه قرب الفرائض فهو أقر ب، وقربهم منه تعالى على قدر تخلّقهم وتحققهم بأسمائه تعالى، والكامل المكمّل هو الذي له الظهور بجميع الأسماء الإلهية ما عدا الوجوب بالذات، وذلك مجموع الصورة الإلهية التي خلق الله آدم (عليه السلام) عليها، كما ورد:

((إن الله خلق آدم على صورته)) .

وفي رواية خّرجها ابن النجار وصحّحها الكشف «على صورة الرحمن».

«فإذا تقابلت الصورتان سجدت كل واحدة منهما للأخرى».

والمتحقق بهذه المرتبة هو الذي يسمّى بالإنسان الكامل، وهو الذي يقول: «أنا الله بالأمر الإلهي»، كما نقل عن أبي زيد البسطامي أنه كان يقول: إنني أن الله لا إله إلاَّ أنا فاعبدني، وكما نقل عن الشيخ الأكبر أنه قال في جملة أبيات له:

يا قبلتي خاطبيني بالسجود لقد

 

وجدت شخصاً لشخصي فيَّ قد سجد

لاهوته حلَّ ناسوني فقدّسه

حتى عجبت لمثلي كيف ما عبدا؟!

وإلى هذا يشير قوله تعالى: ﴿فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ﴾[الشورى: 42/9].

إشارة لا تفسيراً، واحذر أن ترميني بحلول أو اتحاد أو امتزاج أو نحو ذلك، فإني بريء، من جميع ذلك ومن كلّ ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) فإنني فهمت منهما ما فهمت أنت، وزدت عليك، وكلام الله وكلام رسوله (صلى الله عليه وسلم) بحر زخّار، لا نهاية لمدلولاتهما، ولا قرار، وكلّ من قال في مسألة: هذا مراد الله تعالى لا زائد عليه أو مراد رسوله (صلى الله عليه وسلم) لا غير، فقد أعظم الفرية، ولهذا امتنعت رواية القرآن بالمعنى إجماعاً، ورواية الحديث عند أهل الله قاطبة، وبعض علماء الظاهر. فإنه لو روي القرآن والحديث بالمعنى ما أخذ أحد منهما إلاَّ ما فهمه الراوي بالمعنى. فإذا كان القرآن بلفظ م نزل، والحديث بلفظ الرسول (صلى الله عليه وسلم) أخذ منهما كلّ من فتح الله فهمه عنه، ما قسم له إلى يوم القيامة. روى البخاري في صحيحه، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) إمام أهل هذه الطريقة وقدوتهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما سئل: هل خصّكم أهل البيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لما سئل : هل خصّكم أهل البيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بشيء من العلم؟! فقال: «لا، والذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، إلاَّ فهماً أعطيه رجل في كتاب الله»، وقد وعد الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وسلم) ببيانه فقال: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾[القيامة: 75/19].

وبيانه عام لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) في حياته، ولمن شاء الله من عباده بعد وفاته، ولا يبينه تعالى إلاَّ بكلامه، على ألسنة من شاء من عباده. قال تعالى: ﴿فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ﴾[التوبة: 9/6].

وما سمعه إلاَّ من مظهر محمد (صلى الله عليه وسلم) ـ.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!