الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


278. الموقف الثامن والسبعون بعد المائتين

روى مسلم عن رافع بن خديج: ((قدم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) المدينة وهم يؤبرون النخل، قال: ما تصنعون؟! قالوا: كنّا نصنعه، قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً، فتركوا، فنقصت الثمرة، فقال (صلى الله عليه وسلم): إنما أن بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإِنَّما أن بشر)) وفي رواية أخرى لمسلم:

((إنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطئ، ويصيب، ولكن إذا قلت لكم: قال الله، فليس أكذب على الله)).

اعلم أن من فهم من هذين الحديثين أنه (صلى الله عليه وسلم) كان جاهلاً بأن النخل يصلحه التأبير، عادة أجراها ا لله تعالى حكمة وفضلاً فقد أبعد، وإن كان من الأكابر، فلربما مراده أمر آخر، فإن الرسل (صلى الله عليه وسلم) لا يصلون إلى هذا الحدّ من الجهل بأمور الدنيا، كيف؟!.. ومحمد (صلى الله عليه وسلم) نشأ في بلاد العرب، وهي أرض النخيل، ومحلّ علم زراعته وتثميره؟! فهذا محال، فمن ع لوم القلم واللوح بعض علومه، وأمور الدنيا وأسبابها، ومسبّباتها قد تضمنها القلم واللوح. ومن أنواع العلم علم أن كلّ سبب متضمّن لمسببه. أخبرت البارحة بهذا في الواقعة. ولكنه علم (صلى الله عليه وسلم) وما كانت عليه العرب من الاعتماد على الأسباب، وكان المسلمون حديثي عهد بجاهلية وعبادة الأصنام، فأراد أن يعرفهم أن الأسباب لا تأثير لها، وأن الفاعل هو الله، وجدت الأسباب أو عدمت. فقال لهم: لو لم تفعلوا كان خيراً. وظن (صلى الله عليه وسلم) أنهم إذا تركوا السبب الذي هو التأبير، يخرق الله تعالى لهم العادة، فتصلح النخل، من غير سبب التأبير، وبعد هذا يردّهم إلى استعمال الأسباب، فيحصلوا على مقام التوكل، الذي هو الاعتماد على الله، حالة وجود الأسباب وحالة عدمها. لا بمعنى أنه خير من تعاطي السبب ظاهراً مع الاعتماد على الله تعالى باطناً. فلهذا ما أمرهم بترك السبب جزماً، فإنه محال في حق الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن يأمر بترك الأسباب رأساً. فإنَّ الله ربط الحكمة بوجودها. وما وجدنا شيئا ًعن غير سبب. فالأسباب مقتضى الحكمة الإلهية، وواضعه الله، فرفعها أصالة جهل، و الجهل بالله من الرسول محال. وقوله (صلى الله عليه وسلم) : إنما أنا بشر، إذا أمرتكم.... إلى آخر الحديث الأولز وقوله: إنما أنا بشر مثلكم... إلى آخر الحديث الثاني. إنما قال هذا لهم حيث فاتهم فهم مراده (صلى الله عليه وسلم) منهم وتوهموا مع ذلك أن كلّ ما يتكلّم به (صلى الله عليه وسلم) هو وحي من الله تعالى، وإخبار عنه تعالى، فبيّن لهم أنه بشر نبي، فما كان من كلامه متعلقه الأمر وا لنهي والتشريع والإخبار عن الله ف هو من الوحي المأمور بتبليغه. وماكان من كلامه (صلى الله عليه وسلم) متعلقه التأديب والسياسات والترقي في المقامات الكمالية فهو منه (صلى الله عليه وسلم) فعلّمهم أن ل يجعلوا كلامه كلّه وحياً، ولا يجعلوه كلّه من عنده. فإنه (صلى الله عليه وسلم) بعث إلى الأحمر و الأسود، وإلى الناس كافة. فهو يكلّم كلّ أحد حسب استعداده ويعلم كلّ أحد حسب قابليته. ويسوس كلّ أحد بما يصلحه، يتكلم، مع الكبير والصغير، والملك والسوقة، والعالم والجاهل، والذكي والبليد، والعاقل والأحمق ويمزح مع الصغير والكبير والمرأة، فهو نبي فيما يأمر وينهي بأمر الله، وفيما يخبر به عن الله، بشر فيما يسوس به أمّته، ويربيّهم ويدبّرهم من عنده، بإذنه العام تعالى له. ومن هذه القضية أخذ مشايخ الصوفية رضوان الله عليهم تربيتهم للمريدين. فيأخذونهم أولاً بترك الأسباب، لأنهم رأوا أنه لا يخلص مقام التوكّل للمريد، بحيث يصير حالاً له، مع تعاطي الأسباب، فإذا تمكنّوا ردوهم إلى معاطاة الأسباب مع الاعتماد على الله، وهو م قام الكمّل من نبيّ ووليّ، فتعاطي الأسباب مستحب إجماعاً، مع الاعتماد على الله لا على السبب، وواجب عند البعض، وهذه القضية خلاف قول يعقوب (عليه السلام) لبنيه:

﴿ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ﴾[يوسف: 12/67].

فإنه علمّهم فعل السبب مع التوكل على الله تعالى دفعة واحدة، لقوّة نورانيتهم، وكونهم بضعة النّبوة، من غير واسطة.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!