الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


275. الموقف : الخامس والسبعون بعد المائتين

قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾[الصافات: 37/96].

اعلم أنَّ هذه الآية وأمثالها حيّرت العقول والأوهام، فاختبطت فيه الآراء، وتخالفت فيها الأفهام، حيث نسب تعالى خلق العباد وعملهم إليه، وأثبت في ضمن ذلك لهم عملاً، فأفرد وشرك، وذلك أنه تعالى يفعل تارة بلا واسطة حجاب مخلوق، وتارة بواسطة حجاب مخلوق، فظن الظانّون أنَّ الفعل للحجاب، وهو الصورة التي شوهد الفعل منها حسّاً. وظن آخرون أن الفعل مشترك بين الحق والصورة. والفعل في الحقيقة إنما هو لله. فإن العالم كلّه أفعال الله، وأفعال الله تعالى كلّها لازمة قائمة به تعالى، كما هو شأن الفعل اللازم عند أرباب اللسان، فليس له تعالى فعل متعدّ، فيكون له مفعول منفصل عنه يقال فيه «غير» فإن المفعول غير فاعل الفعل، كالنجّار مثلاً، مفعوله الصندوق ونحوه، وهو غيره ضرورة، والحق تعالى لا غير له، فل مفعول له منفصل عنه. ولهذا أرباب الشهود يشهدون الحق تعالى في جميع ذرات العالم على التقديس والتنزيه اللائق به تعالى ـ، ظاهراً بفعله وتصويره وخلقه. إذ الفاعل يظهر بفعله، وفعله قائم به لا يفارقه، فهو تعالى الظاهر بفعله لمن شاء من عباده، وهو الباطن المتحجّب بفعله عمّن شاء من عباده، فيتوهّم أن العالم غير وسوى. وليس الأمر كذلك، وإنما العالم كالفعل اللغوي، وهو المصدر، الذي هو أمر اعتباري لا وجود له في حدّ ذاته، وإنما قلنا هذا ليعلم أن العالم الذي هو فعل الله ـ تعالى وخلقه وتصويره أمر اعتباري، لا استقلال له بذاته، وإنما هو قائم بفاعله المقوّم له، وهو الحق تعالى فما هو غيره ولا سواه، فا لقيام وا لقعود مثلاً، ل وجود له في حدّ ذاته، وإنما الفاعل صار ظاهراً به، بعد أن لم يكن ظاهراً به. وقد ورد في الكتاب العزيز والسنة النبوية نسبة الفعل إلى الله وحده، فلهذا كثر اللغط وانتشر الاختلاف في نسبة الحاصل بالمصدر لمن هو ومن عرف مسمّى المخلوق وما هو، عرف الأمر كما هو. وليس هذا إلاَّ إلى الطائفة المرحومة، ألحقنا الله بها وجعلنا من حزبها. قيل لي في الواقعة: إنما أضاف تعالى الفعل إلى المخلوقات أحياناً، من حيث أنهم صورٌ وأشكالٌ في الوجود الحق، لا غير.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!