الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


273. الموقف الثالث والسبعون بعد المائتين

وصفة العرض هو أن يضع الحق تعالى كنفه على عبده المؤمن، فلا يراه نبيٌّ مرسل ولا ملك مقرب، فيقرره الله بذنوبه، فلا يسعه إلاَّ الإقرار، فيقول له: قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم ويؤمر به إلى الجنّة، فيمرّ على أهل المحشر فيقولون ما أسعد هذا!! لم يعص الله قط.

والنوع الثالث استغفار العامّة، وهو طلب الستر عن العقوبة والمؤاخذة بالذنوب، لا يبالون بالفضيحة، بين الخلائق، وبعد كتابة هذا الموقف ِألقي علي في الواقعة:

﴿كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾[سبأ: 34/15].

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾[يوسف: 12/ 24].

الهمّ ثاني الحركات النفسية الخمسة التي تتقدم الفعل، وهي: الخاطر، ويقال نقر الخاطر، ويقال الهاجس، ويقال السبب الأول، ثم الهم، ثم العزم، ثم القصد، ثمَّ النيّة تقارن الفعل الظاهر، والهم يعطي الحيرة في الأمر بين الفعل والترك، ولا يكون إلاَّ في المعاني لا يكون في الأعيان. وفي ذكر همِّها به وهمِّه بها بيان ما كانت عليه من شدة الطلب والتوصل إلى مقصودها بأن وجه كان، وما كان عليه هو (عليه السلام) من العفّة مع رحمته بها، لما أصابها من العشق، وما بيَّن تعالى ما همَّت به، لأِنه معلوم من قوله: «وراودته» ولا ما هَمَّ به هو (عليه السلام) لأنه معلوم من قوله: ﴿قَالَ مَعَاذَ اللّهِ﴾[يوسف: 12/23]،فأمَّا همَّها به، أي بشأنه، فهو فيما يوصلها إلى مطلوبها منه بأيّ وجه كان، وأنها أولاً دعته إلى م دعته إليه بعزّة السيادة وقهر الملكية، فقالت له آمرة: ﴿هَيْتَ لَكَ﴾[يوسف: 12/23]. أي بادر وقرب. وفلمَّا أجابها بقوله:﴿قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾[يوسف: 12/23].

انكسرت حدتها وفترت شدّتها، وعلمت أن السطوة والقهر لا يجديان نفعاً ولا يشبعان لها صدعاً، فهمّت به، بأن تلقي نفسها بين يديه، وتتطارح على رجليه، وتظهر ذلّتها، وتفارق عّزتها. وأما همّه (عليه السلام) بها فهو أن يظهر لها رحمته به وشفقته عليها، وأنه يحبّها حبّاً إلهياً روحانياً أسمائياً، حيث أن المرأة من حيث هي مظهر مرتبة الانفعال التي بها ظهرت مرتبة الفعل، والكامل مظهر مرتبة الفعل، مرتبة الأسماء. والأسماء أشّد حبّاً لمرتبة الانفعال من محبة مرتبة الانفعال للأسماء. ومن هذا المشهد حبّب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإلى كلّ كامل من نبيّ وولي النساء، فلا تجد كاملاً إلاَّ وهو يحبُّ النساء لهذا الشهود. فأظهر الحق تعالى ليوسف (عليه السلام) في سره برهان حكمته، أن لا يقول ما همّ به ولا يظهره لها فإنها جاهلة عاشقة، والعشق يخرج صاحبه عن ميزان العقل حتى قيل: ((ولا خير في حب يدبّر بالعقل)) وإن إظهار ما همّت به لها، يزيدها طمعاً و تكالباً ويقوّي رجاءها في نيل مقصودها. كذلك ، أي كما ابتليناه بها ووجدناه صابراً على الأمر والنهي، نعم العبد، أريناه برهان حكمتنا بترك ما همّ به، لنصرف عنه السوء. فم همَّ بسوء، فإن الهمّ بالسوء من السوء، وقد صرفه الله عنه، لأنه من عباده تعالى المضافين إليه إضافة تخصيص،  وتشريف المخلصين المستخلصين للنبوة والأمانة وحمل الوحي الجبرائيلي الاختصاصي. فاعرف ي أخي مقام النبوة الأسمى، وأثبت له كلّ كمال، ونزّهه عن كل مايجلب عيباً ووصماً، واعرف الحق تعرف أهله، فلا تقلّد في هذا وأمثاله أحداً من كذبة المؤرخين وجهلة المفسرين.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!