الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


246. الموقف السادس والأربعون بعد المائتين

قال تعالى: ﴿وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾[العنكبوت: 29/ 46].

القول في الآية إشارة لا تفسير، أنه تعالى أمر المحمديين أن يقولو لكل طائفة من طوائف أهل الكتاب: يهود ونصارى وصابئة وغيرهم آمنا بالذي أنزل، أي تجلّى إلينا وهو الإله المطلق عن كل تقيّيد، المنزه في عين تشبيهه،  المُشَبَّه في عين تنزيهه، وهو هو المشبّه في الحالتين. وأنزل أي تجلي إليكم في صور التقييد والتشبيه والتحديد، وهو هو المتجلّي إلينا وإليكم، فليس النزول والإنزال والتنزيل والإيتاء إلاَّ ظهورات وتجليات سواء نسب ذلك إلى الذات أو إلى كلامها، أو إلى صفة من صفاتها، فإنَّ الحق تعالى ليس في جهة فوق لأحد فيكون الصعود إليه، ولا جهة لذات الحق تعالى وكلامه وأسمائه فيكون النزول منه إلينا، وإنما النزول ونحوه باعتبار المتجلّي له ومرتبته. فالمرتبة هي التي سوغت التعبير بالنزول ونحوه. والمخلوق مرتبته سافلة نازلة، والحق ـ تعالى رتبته عالية، رفيع الدرجات، فلولا هذا ما كان التعبير بنزول ولا إنزال، ول صعود ولا عروج، ولا تدل ولا تدان، وإنما كان التعبير بالبناء للمجهول، لأنَّ التجلّي صادر من الحضرة الجامعة لجميع أسماء الألوهية، ولا يتجلّى منها إلاَّ حضرة الإله وحضرة الربّ وحضرة الرحمن قال: ﴿وجاء ربّك﴾، وقال: ﴿ينزل ربنا﴾ كما ورد في الخبر. وقال تعالى ﴿إلاَّ أن يأتيهم الله﴾، وغير ممكن أن تتجلى حضرة من الحضرات بجميع ما اشتملت عليه من الأسماء، فهي دائماً تتجلى بالبعض وتستر بالبعض، ممّ اشتملت عليه، فافهم. فإلهنا وإله كلّ طائفة من الطوائف المخالفة لنا واحد وحدة حقيقة، كما قال في آي كثيرة، ﴿وإلهكم إله واحد﴾، وقال: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللهُ﴾.

وإن تباينت تجلياته مابين إطلاق وتقييد وتنزيه و تشبيه، وتنوّعت ظهوراته، فظهر للمحمديين مطلقاً عن كل صورة في حال ظهوره في كل صورة من غير حلول ولا اتحاد ولا امتزاج، وظهر للنصارى مقيداً بالمسيح والرهبان كما أخبر تعالى عنهم في كتابه، ولليهود في العزيز والأحبار، وللمجوس في النار، وللثنويه في النور والظلمة، وظهر لكلّ عابد شيء في ذلك الشيء من حجر وشجر و حيوان ونحو ذلك، فما عبد العابدون الصور المقيدة لذاتها، ولكن عبدوا ما تجلّى لهم في تلك الصورة من صفات الإله الحق تعالى ـ، وهو الوجه الذي لكل صورة، من الحق تعالى فالمقصود بالعبادة واحد من جميع العابدين. ولكن وقع الخطأ في تعيينه. فإلهنا وإله اليهود والنصارى والصابئة وجميع الفرق الضالّة واحد، كما أخبر تعالى . إلاَّ أن تجلّيه لنا غير تجليه في نزوله إلى النصارى، غير تجليه في نزوله لليهود، غير تجليه لكل فرقة على حدتها، بل تجليه في تنزله للأمة المحمدية متباين متخالف، ولذلك تعددت الفرق فيها إلى ثلاث وسبعين فرقة، وفي نفس هذه الفرق فرق بينها تباين وتخالف كم لا يخفى على من توغّل في علم الكلام، وما ذلك إلاَّ لتنوع التجلّي بحسب المُتَجَلَّى له واستعداده والمتجلي تعالى واحد في كل تنوع وظهور ما تغير من الأزل إلى الأبد، ولكنه تعالى ينزل لكل مدرك بحسب إدراكه والله واسع عليم. فاتفقت جميع الفرق في المعنى المقصود بالعبادة، حيث كانت العبادة ذاتية للمخلوق وإن لم يشعر بها إلاَّ القليل، من حيث العبادة المطلقة، لا من حيث أنها كذا وكذا واختلفت في تعينه، فنحن للإله الكل مسلمون وبه مؤمنون، كما أمرنا أن نقول. وما شقي من شقي إلاَّ بكونه عبده في صورة محسوسة محصورة، وما عرف ما قلنا إلاَّ خواص المحمديين دون من سواهم من الطوائف، فليس في العالم جاحد للإله مطلقاً من طبائعي ودهري وغيرهما، وإن أفهمت عباراته غير هذا فإنما ذلك لسوء التعبير. فالكفر في العالم كلّه إذن نسبي. وهنا نكتة إن شعرت بها. فمن لم يعرف الحق تعالى المعبود هذه المعرفة عبد رباً مقيداً في اعتقاده، محجراً عليه أن يتجلّى لأحد بغير صورة اعتقاد هذا المعتقد وكان المعبود الحق تعالى بمعزل عن جميع الأرباب، وهذا من جملة الأسرار التي يجب كتمها عن غير أهل طريقتنا ويكون مظهره من الفتانين لعباد الله تعالى فالحذر الحذر، ولا ذنب على من كفّر مظهره من العلماء، أو نسبه إلى الزندقة حيث لا تقبل منه توبة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!