الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


242. الموقف الثاني والأربعون بعد المائتين

قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَ نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾[الحج: 22/52].

اعلم: أنه لما أمر الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وسلم) أن يقول للناس: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾[الحج22/ 49].﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾[الحج: 22/ 50].﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَ مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾[الحج: 22/ 51].

أي أرسلت إليكم لتمييز أهل السعادة من أهل الشقاوة فلابدَّ أن يؤمن بي بعضكم فيسعد. وهم: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ إلى آخر الآية، ويكفر بعضكم فيشقى، وهم: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾[الحج: 22/51].

إلى آخر الآية، تنبيهاً له (صلى الله عليه وسلم) لئلا يصدر منه ما صدر من الرسل والأنبياء قبله من التمنّي، رتب على ذلك إخباره (صلى الله عليه وسلم):

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَ يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[الحج: 22/52].إلى آخر الآية.

ذلك أنه تعالى ما أرسل رسولاً مستقلاً بالدعوى، ولا نبياً داعياً إلى اتباع شريعة من قبله من الرسل إلاَّ ويحققه بصفة الرحمة الكاملة و الرأفة الشاملة، فيتمنّى لذلك ويقول بلسانه لا بقلبه، لأن التمني ليس من أعمال القلوب، ويتلّفظ بقوله: ليت الحق تعالى يهدي جميع من أمرني بدعوتهم إليه. وهذا التمنّي قهري طبيعي في كل رسول ونبي، كسائر الأمور الطبيعية، لما يغلب عليهم صلوات الله عليهم وسلامه ـ، من إرادة الخير لعباد الله وحبّ نجاتهم. وكان نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم)، على جانب عظيم من هذا التمنّي قطعاً، مع أنَّ كلّ رسول ونبيّ يعلم أنه تعالى ما أمرهم بدعوة الخلق إلاَّ لتمييز القبضتين، وتبين أصحاب الشمال من أصحاب اليمين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وحيث كان هذا التمني وإن كان خيراً بادئ الرأي، فهو مناقض اللغة العربية عبودية المحضة، التي هي إلقاء القياد بيد العليم الحكيم، وعدم الاختيار لشيء معه تعالى ـ، مع أنَّ التمنّي لا جدوى له، ولا فائدة، لأن الشيء المتمنى حصوله لا يخلو إما أن يكون مقدراً حصوله أو غير مقدر؛ فإن كان غير مقدور فهو معارضة القدر، وإن كان مقدوراً فهو تضييع للوقت وبطالة. ولما كانت مرتبتهم عند الحق تعالى أسمى المراتب اقتضت أن الأولى بهم صلوات الله وسلامه عليهم تركه، وإن كان هذا لا يقدح في مراتبهم العليّة، حيث أنه كالأمور الطبيعية القهرية لهم. ولكنه فيه شوب من عدم الوقوف مع العبودية المحضّة، التي تقتضيها مرتبتهم، وذلك لما جبل عليه البشر من الغفلة، فإنه أمرٌ ذاتي لا يرفع أبداً ولا عن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ولذا تقرّر في القرآن العزيز الأمر للرسل أن يقولوا لأممهم: إنما نحن بشر، وفي الصحيح:

((إنما أنا بشر أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني)).

ولولا النسيان والغفلة ما حصل لهم هذا التمني، مع علمهم بحقيقة الأمر بواطنه، فلهذا نبّه الحق تعالى حبيبه المخصوص بخصائص ما أدركها رسول قبله لئل يفوته هذا الأدب الواحد،  الذي ما خلا عنه رسول ولا نبي، إذ كل ما يقدح في مقام فإن صاحب ذلك المقام لم يتصف في تلك الحال بالكمال الذي يستحقه ذلك المقام، وإن كان من الكمّل، قال إمام العالمين بالله تعالى ، وبرسله عليهم الصلاة والسلام شيخ الشيوخ محي الدين الحاتمي: «م رأيت ولا سمعت عن أحد من المقربين أنّه وقف مع ربّه على مقام العبودية المحضة». فالملأ الأعلى يقول:﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾[البقرة: 2/30].والمصطفون من البشر يقولون: ﴿لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً﴾[نوح:26].

((إن تهلك هذه العصابة لن تعبد بعد اليوم)).

ولما صدر منهم صلاة الله وسلامه عليهم هذا التمني أدّبهم الحق تعالى ونبّههم على ما فات هم في هذا التمني بتسليط الشيطان، وإلقائه تكذيبهم في نفوس جميع المتمني تصديقهم وهدايتهم ممّن لم يصدّقهم بعد، ومن لا يصدقهم أبداً، وإن وجد فرد لم يتوقف ولم يتلعثم وهو الصديق، فهذا نادر، ولذا عظمت مرتبته كما قال: ﴿ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾[الحج: 52].

فالكل يرتاب ويتوقف، كما قال: ﴿ كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَ كَذَّبُوهُ﴾[المؤمنون: 23/44]. وقال: ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَ يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾[يس: 36/ 30].

فينسخ الله ما يلقي الشيطان بإظهار المعجزات الخارقة، والآيات المتتابعة، فعرف الكل صدقه، فمن سبقت له سعادة أظهر ما عرف باطناً،  ومن سبقت شقاوته جحد، واستكبر، كما قال:

﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ﴾[الأنعام: 6/ 33].

وقال: ﴿ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾[النحل: 16/ 83].

ونعمة الله هي محمد (صلى الله عليه وسلم) وقال: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَ وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾[النمل: 27/14].

أي جحدوا بها ظلماً وعلواً مع إيمانهم أنها من الله تعالى تصديقاً لرسله، وقال: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ﴾[الإسراء: 17/ 102].

إلى أمثال هذه الآيات. ومن طالع كتب السير علم أن المشركين كانو عالمين صدقه (صلى الله عليه وسلم) ولكن جحدوا استكباراً وسبق شقاوة، وقد شهد الله تعالى أن اليهود كانوا يعرفون صدق محمد (صلى الله عليه وسلم) كما يعرفون أبناءهم، ثمَّ يلقى الشيطان للمكذبين، أنكم خسرتم أنفسكم وسفهتم أحلامكم بعدم إظهار ما علمتم من صدقه، ثم يلقي إليهم الشك أيضاً، وهذا دأبهم ودأب الشيطان معهم يشككهم في صدقه ثم يشككهم في ك ذبه، وذا حال من كان في زمانه من الكفار كما قال: ﴿فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾[التوبة: 9/45].

وقال حكاية عنهم: ﴿وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾[هود:11/ 62].

ولهذا تكون معيشة الكافرين ضنكاً كما قال: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾[طه : 20/ 124].

أي في الدنيا، فهو في ضيق، ممّا يلقي الشيطان إليه، فلا يستريح باطناً في الدنيا أبداً، ثم يحكم الله آياته ويثبتها في قلوب المسلمين ظاهراً وباطناً، فل يبقى لهم تردُد ولا وسوسة في صدق الداعي إلى الله، وذلك بمخالطة بشاشة الإيمان لقلوبهم فلا يسخطونه أبداً، والله عليم بما تقتضيه استعدادات مخلوقاته حالة ثبوته وعدمها، حكيم يضع الأشياء مواضعها اللائقة بها بالاستحقاق من غير زيادة ولا نقصان، ولا يظلم ربّك أحداً في كلّ ما يفعل ويحكم، ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة، بيان حكمة تسليط الشيطان بالإلقاء في قلوب جميع أمة الدعوة والإجابة جميعاً مع تنبيه الرسل والأنبياء على تمنيهم وأن ذلك فتنة، فيقول المنافقون، وهم الذين في قلوبهم مرض، لو كان هذا حقاً ما توقف الجميع فيه قبل. ويقول الكفار الجاحدون وهم القاسية قلوبهم، عار علينا أن نظهر تصديقه بعد جحوده استكباراً وعناداً كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ﴾[الأعراف: 7/101].

في الأعراف، وقال في يونس: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَ كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ﴾[يونس: 10/74].

فاشدد يديك وعض بالنواجذ على ما سمعت في هذه الآية، ولا تلتفت إلى م ذكره كثير من المفسرين فيها في قصّة الغرانيق، التي وضعها بعض الملاحدة ليدخل الشك في الوحي والقرآن الذي: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾[فصلت: 41/42].﴿وَمَ تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَ يَسْتَطِيعُونَ﴾[الشعراء: 210-211].وإني لأسأل من الله العفو و السماحة للحافظ ابن حجر حيث صحّح تلك القصة الفظيعة الشنيعة، وأيد طرق ورودها ودفع قوادحها، والآية ما أخبرت أن هذا كان من محمد (صلى الله عليه وسلم) وإنما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ﴾[يوسف: 109].

فهو إخبار له (صلى الله عليه وسلم) لا إخبار عنه،  وهو نص صريح.

﴿مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾[النور: 24/16].

فأين ذهب شرف النبوّة والرسالة، الذي لا شرف فوقه إلاَّ شرف الربوبية، لو صحّت هذه القصة، فأين العصمة إذا كان الشيطان يلقى الكفر على ألسنة الرسل والأنبياء جميعهم ويسمعه الناس من لسان كل رسول وكل نبي، فإن صريح الآية أن هذ التمني واقع من كل نبيّ ورسول أرسله الله تعالى ـ، والنطق بقصة الغرانيق كفرٌ ضرورة، ولو وردت القصة بأن الشيطان ألقى في آذان السامعين هذا لربما كان له وجه إلى القبول، ولكن قالوا: ألقى الشيطان على لسان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اللهم إنَّا نعوذ بك من التلبيس، ومن نزغات إبليس، ومن أن نضلّ أو نضل.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!