الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


237. الموقف السابع والثلاثون بعد المائتين

قال تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ﴾[المؤمنون: 23/ 17].

أي ما وجدنا غافلين عن شيء خلقناه من عالمي الخلق و الأمر، بأن تركن إمداده بما يكون به بقاؤه، ومدة إرادتنا بقاء صورته، بل نمدُّ كلّ مخلوق بما تبقى به صورته. وليعلم أنَّ الحق تعالى ما خلق صورة من الصور الطبيعية أو العنصرية إلاَّ خلق لها أرواحاً تدّبرها مدة إرادته تعالى بقاءها. فإذا أراد تعالى انحلال تركيب صورة من صور المخلوقات، قطع عنها الإمداد الذي يكون به بقاؤها، فتتداعى أركان تلك الصور إلى الخراب، ويحصل الحادث الأعظم المسمّى بالموت، كما في الحيوان، أو تفرق الأجزاء كما في النبات و الجماد. ولهذا يقول بعض المتكلمين: إنَّ القدرة الإلهية لا تتعلق بالإعدام. وإن الإعدام ماهو إلاَّ قطع المدد الذي يكون به بقاء صورة المخلوق، فذلك إعدامه لا غير، كالسراج مثلاً، فإنَّ صاحبه مادام يريد بقاءه مشتعلاً يمدُّه ب الزيت، فإذا أراد انطفاءه قطع عنه الزيت فينطفئ السراج بنفسه ل بفعل فاعل. فأما الصور العنصرية، فإنَّ الحق تعالى جعل لها أرواحاً كثيرة تدبرها، أعظمها تدبير الأرواح الأربعة المسماة: بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ومجموعها يسمى بالطبيعة، والروح المسمى بالدافعة، والروح المسمّى بالماسكة والروح المسمى بالغاذية، وغيرها من الأرواح التي تسميها الحكماء بالقوى الجسمانية. وجعل تعالى هذه الأرواح متضادة متباينة الأفعال لحاجة الصورة الجسمية لذلك، فمتى ضعف روح عن فعله، وأداء وظيفته، طلب الإمداد من الحق تعالى بروح مناسب له ليتقوى به، ويدفع الغلبة عن نفسه، فيهيئ له الحق تعالى غذاء أو دواء، ولهذا جعل الحق تعالى الأغذية والأدوية، فليست الأغذية والأدوية إلاَّ أرواحاً تحملها صور جسمانية دوائية أو غذائية إلى الأرواح الأصلية، ليتقوّى بها من حصلت عليه غلبته من مقابله. مثلاً إذا ضعف الروح الدافع عن فعله، وغلبه الروح الماسك، طلب الروح الدافع غذاء مناسباً له، يتقوّى به حتى يفعل فعله ويؤدي وظيفته أو دواء مناسباً له، ولهذا كانت الأدوية المسهلة. وكذا إذا ضعف الروح الماسك عن فعله، وأداء وظيفته، وغلبه الروح الدافع، طلب غذاء مناسباً له أو دواءً مناسباً، ولهذا كانت الأدوية القابضة. وقس على هذا ، وإذا أدّت الصورة الغذائية أو الدوائية روحها إلى الروح الذي طلبها، فسدت وخرجت من الجسم، إمَّا بالقيء أو الغائط أو البول أو غير ذلك، فلا تشتهي الأرواح وتطلب إلاَّ أرواحاً مناسبة لها. ولا تطلب الصور الجسمانية الدوائية أو الغذائية أو الدوائية إلاَّ بالعرض لكون الأرواح المناسبة لها تصل إليها بواسطة الصور الغذائية أو الدوائية، فسبحان العليم الحكيم، له الخلق، أي خلق الصور، والأمر أي تدبير الخلق بالأمر، وهي الأرواح الأمرية الموجودة لا عن مادة. ولولا التضاد بين أفعال هذه الأرواح الجسمانية ما استقامت صورة الجسم، أي جسم كان من الأجسام العنصرية، ولهذا إذا غلب واحد منها الغلبة التامة، حتى لم يبق لمقابله أثر فسدت الصورة، كما إذا غلبت الحرارة ولم يبق للبرودة والرطوبة أثر أو العكس. ونحو ذلك من أفعال الأرواح الجسمانية، فما قامت الصورة إلا بوجود هذه الأرواح المتضادة الأفعال.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!