الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


228. الموقف الثامن و العشرون بعد المائتين

قال تعالى: ﴿ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[يونس: 10/ 55].

أي وعد الله حق ثابت وقوعه لمن وعده، ولكن أكثرهم لا يعلمون، فقالو بحقية الوعيد كذلك، وهو خطأ، لأنه تعالى يحبُّ المدح، كما ورد في الصحيح. فحيثم ذكر تعالى الوفاء بالعهد فإنما ذكره للتمدح والامتنان. والوفاء بالوعيد ليس هو ممّا يتمدّح به، فإنه دليل الحقد والجفاء والغلظة، وليس في إخلاف الوعيد نقص، كم توهم، بل هو عين الكمال، ولا يسمّى خلفاً عادة، وإنما يسمى عفواً وغفراناً وسماحة وكرماً وسؤدداً. قال بعضهم يمدح نفسه بإخلاف الوعيد:

وآني إذا أوعدتُه أو وعدته        لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

وكيف؟! وهو تعالى يحثنا على هذا الخلق، ويأمرنا به، ويرغبنا فيه، في غير ما آية، ويمدحنا به، ولا يفعله؟! هذا محال. إذْ «لا أحد أحبُّ إليه المدح من الله تعالى »، كما في صحيح البخاري، ولو لم يفعله أدخل تعالى نفسه تحت قوله: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾[البقرة: 2/ 44].

والعقل إذا نظر إلى أنه تعالى لا ينتفع بطاعة، كما قال: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا﴾[الحج: 37].ولا يتضرر بمعصية فإنه غني عن العالمين، لا يحكم بعقوبة ولا مثوبة وإنما الشارع جاء بتعيين هذا، وهذا ترجيح لأحد الجائزين في العقل مع توقف ذلك على المشيئة الإلهية من غير إيجاب، ولا يوجد في الكتاب ولا في السنة دليل نص لا يتطرق إليه احتمال في عقوبة العاصي ولابدّ، بحيث لا يرجى له عفو ولا سماح ولو بعد حين، وأنه تعالى لا يخلف وعيده، فله تعالى أن يخوّف عباده بما يشاء من قول أو فعل، وقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ﴾[النساء:4/ 48 و 116].الآية.

ماهو دليل نص على أن المشرك مطلقاً يتسرمد عليه العذاب الأليم أبد الآبدين وإنما دلّت الآية على أنه لا يغفره، بمعنى أنه لا يستره، بل لابدَّ من عقوبته وتعذيبه. وهل بعد هذا التعذيب والعقوبة عفو سماح أولاً؟! ليس في الآية دليل على أحدهما. وما ثمَّ نصّ يرجع إليه في تسرمد العذاب على أهله، كما هو في تسرمد النعيم لأهله، فلم يبق إلاَّ الجواز، ودعوى الإجماع باطلة، وقد تقدّم ذلك في موقف: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ﴾[الفتح: 48/1].

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾[فاطر: 35/5].

وما قال «ووعيده» وقال: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾[لقمان: 31/ 33].

وما قال «ووعيده» مع أن هذه الآية ذكرها عقب التهديد والتخويف، وهو قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً﴾[لقمان: 31/ 33].

وقال في طائفة من الملائكة: ﴿ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾[غافر: 40/6].

وقال في طائفة من أخرى منهم: ﴿ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ﴾[الشورى: 42/ 5].

يعني بني آدم. فعمّم وقال حكاية عن خليل (عليه السلام) : ﴿ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾[إبراهيم: 14/ 36].

وقال حكاية عن عيسى (عليه السلام):

﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾[المائدة: 5/ 118].

ولملاحظة هذا المعنى العظيم وغيره ردّد (صلى الله عليه وسلم) هذه الآية ليلة كاملة، كما ورد في الخبر. فلو لم يكن العفو والسماح جائزان، ولو بعد حين، م فوّضه إليه الأنبياء، ولا سألته الملائكة على جميعهم الصلاة و السلام فإن الأنبياء والملائكة أعرف الخلق بالله تعالى وبصفاته وأفعاله. فكلُّ ذنب يجوز العفو عنه بترك العقوبة عليه أصالة إلاَّ الشرك، ولا كلُّ شرك، بل ماكان عن تقليد، كما حكى تعالى عنهم: ﴿ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾[الشعراء: 26/ 74].

وقولهم: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ﴾[الزخرف: 43/ 22].

﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ﴾[الزخرف: 43/ 23].

فإن هؤلاء ما نظروا ولا اعتبروا ولا اجتهدوا؛ بل ع طّلوا نعمة ا لعقل التي هي أعظم نعمة أنعم الله على الإنسان. وأمّا إذا كان الشرك بعد النظر والاجتهاد، وبذل الطاقة، فأدّاه نظره القاصر إلى الشرك، فهذا لا نصُ في القطع أنه لا يغفر له، قال تعالى: ﴿وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ﴾[المؤمنون: 23/ 117].

وهذا له برهان في زعمه، وإن كان ليس ببرهان في نفس الأمر. فإن النظر الصحيح المستوفي الشرائط لا يصل به صا حبه إلى الشرك، كيف؟! وقد قال تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا﴾[البقرة: 2/ 286].

وقال: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا﴾[الطلاق: 65/ 7].

وهذا عمل جهده وبذل وسعه، وأهل الله العارفون به، مجمعون على أن المجتهد في الأصول، وهي المسائل التي لا يكفي فيها إلاَّ القطع، أعني العقائد العقليات معذور، كما هو في الفروع، وهي المسائل التي يكفي فيها غلبة الظن، وهي العمليات. ووافق أهل الله حجة الإسلام الغزالي نظراً في كتابه «التفرقة بين الإيمان و الكفر والزندقة» وإلاَّ فهو من أكابر أهل الله، ووافقهم أبو الحسين العنبري والجاحظ من المعتزلة. ولا تقل أيّها الواقف: أسرفت وأفرطت؛ فإنّي والله توقفت في كتابهِ هذا الوارد ثلاثة عشر شهراً بعد وروده، إلى أن أذن الله تعالى في كتابته. ومن أطلعه الله على شرف هذا النوع الإنساني، وعناية الله به، وما خصّه به من تسخير الأفلاك وسجود الأملاك، قال بما قلناه، وما استبعد في حقه فضلاً من الله تعالى . وفي صحيح البخاري: ((فلو يعلم الكافر بكلّ الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة)) .


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!