الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


217. الموقف السابع عشر بعد المائتين

قال تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ{1} فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ{2} إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ{3}﴾[الكوثر: 108/ 1-3].

صدر هذه السورة بشارة، وآخرها بشارة، وأكد الحق تعالى فيها تبشيره وإخباره. وما بينهما أمر بشكر هاتين البشارتين، والنعمتين الجسيمتين، وبيّن كيفية شكرهما، فقال له: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾ أي كن مصليّاً لربك لاحقاً به لحوقاً معنوياً وقريباً منه كذلك وليس اللحاق به تعالى والقرب منه إلاَّ بالتحقيق بأسمائه وصفاته، بعد التخلّق والتعلق بها، والإعراض عن كل شيء. فإن المصلي لا ينظر إلاَّ إلى السابق، ولا همّة له إلا في اللحاق به. وذكر ثلاثة أسماء لله، وهو الاسم الجامع، وهو الوارث في الحقيقة لا الواحد ولا القهار، إذ أسماء الألوهية و الربوبية تختفي باختفاء آثارها، وهم المألوهون و المربوبون، لأن بزوال المألوه تختفي نسبة الإلهية، وبزوال المربوب تختفي نسبة الربوبية ، فلا رب ولا مربوب، ول إله ولا مألوه، تقديراً كما هو الأمر قبل إيجاد العالم. والواحد وهو من أسماء الذات، وذلك يفيد غناه عن العالمين، إذ ذلك مقتضى الذات العلية، والقهار وهو من أسماء الصفات، وذلك يفيد إعدام العالم وفناءه، فإنّه ما أفناه إلاَّ بتوجهه عليه بأسماء الجلال كالقهار ونحوه، ثم تتجلى أسماء الرحمة و الجمال، وتطلب ظهور آثارها فيعيد العالم، لا إله إلاَّ هو العزيز الحكيم ﴿وَانْحَرْ﴾ شاحح على ذلك وتقدم على غيرك بعزم قوي وهمة عالية، ونافس كلّ منافس.

وصدرها بشارة بإعطاء الخير الكثير، ومنه الكوثر، نهر الجنة المعروف. وعجزها بشارة بدفع كلّ شرّ جليل وحقير، والتأمين من كلّ مخوف، يقول تعالى لحبيبه محمد (صلى الله عليه وسلم) إن المسمى كافراً بك، ومنافقاً معك، وشانئاً لك، كله هو. والهو عبارة عن الحقيقة الغيبية السارية في كل موجود، من حيث أن الموجودات كلّها مظاهر أسماء مرتبة تلك الحقيقة، هي الألوهة. فما كان من مظاهر تلك الأسماء مظهر جمال وخير فهو محب لك (صلى الله عليه وسلم) وما كان منها مظهر جلال وشقاوة فهو شانئ لك من حيث المظهرية ، لعدم المجانسة لك والمناسبة.ولكنه أبتر بالنسبة إليك، بمعنى أنه لا أثر له فيك، ولا له قدرة على إيصال الضرّ إليك. وما ورد من أنه (صلى الله عليه وسلم) سحر، وكان يخيّل إليه أنه فعل الشيء وما فعله، وكان الشيطان يعترضه (صلى الله عليه وسلم) بشعلة نار، وكان شدّ عليه في الصلاة ليقطع صلاته عليه..... ونحو ذلك، ممّا في الأخبار الصحيحة؛ فإنما هي عوارض زائلة، غير قادحة في البشارة بالتأمين، وحكمة عروض هذه العوارض وأمثالها بيان أنه (صلى الله عليه وسلم) من حيث صورته العنصرية البشرية من جملة البشر. ولكنه تعالى أكرمه، ومن كل مكروه عصمه، كما أنه من كل مخلوق أمّنه. فلفظة «هو» على حسب هذه الإشارة خبر، لا ضمير فصل، والأبتر نعت له من هذه الجهة فقط. وإن الثانية ليست لتأكيد الإخبار بأن شانئك هو، فإن هذا معلوم عنده (صلى الله عليه وسلم) لا يعتريه تردّد ولا إنكار له. وإنم هي لتأكيد المبشّر به، وهو أن شانئه لا أثر فيه، و لا يصل إليه منه شرّ كما يصل إلى غيره.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!