الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


199. الموقف التاسع والتسعون بعد المائة

حصل لي أيام التوجّه قبض واستبعاد للطريق، لجهلي بنفسي، واعتقادي البعد من ربّي، فغيّبني الحق تعالى عن نفسي، وألقى علي قوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾[الشورى: 42/ 5].

وقوله: ﴿ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾[الحشر: 59/ 24].

وقوله: ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ﴾[الأعراف: 7/180].

وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً﴾[يونس: 10/ 67].

أخبرني تعالى في الآيتين الأوليين أن الملائكة مع كثرتهم التي ل يحصيها إلاَّ خالقهم يسبّحونه ويذكرونه، فلا تتوهم أنك تذكره وحدك فتتدلّل بعبادتك وذكرك، فتريد أن يفعل بك ما تريد، لا ما يريد، وفي الوقت الذي تريد، لا في الوقت الذي يريد، فاعرف قدرك وتأدّب، فإن العبد يفعل ما يليق بالعبودية، والربّ يفعل ما يليق بالربوبية، وأخبرني في الآية الثالثة، أن لله أسماء كثيرة لا يحصيه إلاَّ هو، أسماء تنزيه وتشبيه، وأسماء ذات، وأسماء صفات، وأسماء أفعال، وكله حسنى، فادعوه بها، أي اعرفوه في كل اسم تجلّى لكم به، وادعوه، لأنه المتجلي بأسمائه، وهي مراتب ظهوراته وتجلياته، ومن جملتها اسمه القابض، فهو تعالى يريد أن يتعرّف لعباده في أسمائه فيعرفونه في كل أسم تجلّى به، على أي عبد شاء من عباده، فمن عرف الحق تعالى في بعض تجلياته، في أسمائه دون بعض؛ فما عرفه في مرتبة إطلاقه، وإنما عرفه مقيداً تعالى عن التقييد:

﴿ وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ﴾[الأعراف: 7/180].

اتركوا وباعدوا الذين يميلون إليه بعض أسمائه دون بعض كالمنزهة فإنَّ ميلهم إلى التنزيه فقط، وكالمشبّهة فإن ميلهم إلى التشبيه فقط، فكل واحد منهم إنما يعرف الحق فيما مال إليه من أسماء تنزيه أو أسماء تشبيه، ويجهله إذا تجلى في غير ما مال إليه، وكلاهما جاهل به تعالى، معطل لغير ما مال إليه من الأسماء.

﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ﴾[ الأعراف : 7/181].وهم الرسل (صلى الله عليه وسلم) فكل رسول أمة، لأن حقيقة كلّ رسول مجموع أمته التابعين له، و﴿ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ﴾[ الأعراف : 7/181].هم وورثتهم، بمعنى يدعون الناس ويهدونهم إلى شهود الحق تعالى في جميع أسمائه، فإنها مظاهر ذاته، سواء أكانت أسماء تنزيه أو أسماء تشبيه، فلا يجهلونه في شيء من ظهوراته مع اعتقاد ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[الشورى: 7/ 11].

وهو تعالى قد عرفهم أنه الظاهر في كل شيء من الأسماء وآثارها، فل يجهلونه في شيء أبداً. وأخبر تعالى في الآية الرابعة، أن القبض والبسط بمثابة الليل و النهار، فالقبض شبيه بالليل لما فيه من الانكماش والانقباض وسكون النفس بالقهر، الذي نزل عليها وتحقّقها بعجزها عن دفع ما نزل بها، فهي لا تمرح ولا تدعى ولا تسترسل في الأماني والطلب، فلاحظ للنفس في القبض أصلاً، فلهذا كان الإنسان وقت القبض أقرب إلى السلامة وتوفية الربوبية حقها والأدب معها منه في وقت البسط، وأمَّ البسط فهو شبيه بالنهار، لما فيه من نشاط النفس وتسريحها بعدم حصول قاهر لها، واسترساله في الأماني والدعاوى الباطلة، ولهذا كان وقت البسط أقرب إلى العطب من وقت القبض، قال بعض السادة: "لا يقوم بحق الأدب في البسط إلاَّ القليل"


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!