الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


16. الموقف السادس عشر

قال تعالى: ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ﴾ [يونس10/ 31].

(قل) للذين صرفوا عقولهم لغير الله تعالى وقصروا نظرهم عليه، وتعلقو بالوسائط والأسباب، وأعرضوا عن مسبّبها، وجعلوها عمدتهم وركنهم الذي إليه يأوون، (من يرزقكم)، يعطيكم ما تنتفعون به (من السماء)؟ يريد ما تنتفع به العقول من العلوم والأسرار والأمور التي لا يهتدي إليها العقل إلاَّ بالفيض الإلهي. (الأرض) م تنتفع به الأجسام والنفوس الحيوانية كما قال في الآية الأخرى:

﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ﴾[المائدة : 5/ 66].

يريد رزق العقول والأرواح العلوية.

﴿وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾[المائدة: 10/ 66].

رزق النفس الحيوانية.

﴿أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ﴾[يونس: 10/ 31].

يتصرف فيهما تصرف المالك لها، فتسمع وتبصر الشيء على حقيقته، وعلى ماهو عليه،  إذا شاء إسماعها وإبصارها، ويصرفه ويمنعها؛ إذا شاء عدم إسماعها وإبصارها، فلا تسمع ولا تبصر الشيء على حقيقته، وعلى ماهو عليه، وهي موجودة، من غير آفة ظاهرة. ألا ترى المحجوبين الجاهلين كيف يسمعون كلام الحق تعالى ولا يسمعونه؟! أعني لا يعرفونه. وإذا انتفت فائدة السمع فقد انتفى السمع لانتفاء المقصود منه. فقد ملك الحق تعالى سمعه، وصرفه عن معرفة المسموع كلام من هو؟ وكذلك يبصرون الحق تعالى ولا يعرفونه، فانتفى البصر لانتفاء فائدته، فقد ملك الحق أبصارهم وصرفها عن معرفة المبصر من هو؟ ﴿وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾[الأعراف: 7 / 198].

وأي الأرض تخلو منك حتى

تعالوا يطلبونك في السماء

تراهم ينظرون إليك جهر

 

وهم لا يبصرون من العماء

بل يتحققون بجهلهم أن المسموع غير كلام الله تعالى وما أبصروه غير الحق تعالى فسبحان مقلّب الأفئدة والأبصار، ﴿وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾[يونس: 10/ 31].يخرج العارف بالله تعالى من الجاهل الغافل عنه، والمؤمن من الكافر، ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ﴾[الأنعام: 6/ 122]. فلا نور إلا العلم بالله تعالى ول حياة إلا به، ولا موت ولا ظلمة إلاَّ الجهل بالله تعالى والغفلة عنه (ومن يدبر) يصرف أمر الله تعالى الذي هو كلمح بالبصر، والعوالم العلوية والسفلية كلّها موجودة بإيجاده، قائمة به، وهو المقوّم لها، والواسطة بين الحق تعالى والخلق، يستمد من الحق ويمد الخلق. فالحق يدبر الأمر، والمر يدبر الخلق، (فسيقولون الله): يعني أنك إذا أوقفتهم على هذه الأمور المتقدمة، ومنها ما لا يعلم له سبب ظاهر، ومنها ما فيه السبب موجود، ولا توجد ثمرته، كسماع المسموع على غير حقيقته، وإبصار المبصر على غير وجهه، بل قد ينتج الشيء ضدّ ماكانت العادة تقضي به كإخراج الحيّ من الميت، والعكس، (فسيقولون: الله). فيعترفون بأنَّ الله تعالى هو الفاعل المؤثر (فقل: أفلا تتقون؟) أي أفلا تجعلون الله تعالى وقاية بينكم وبين ملاحظة هذه الأسباب والوسائط التي أضلتكم وأصمتكم وأعمتكم، وتنظرون مسبّبها من ورائها وتعلمون أنه لا فاعل ولا مؤثر إلاَّ هو تعالى وأنه الفاعل بالأسباب، وعند الأسباب، وعند فقد الأسباب، (فذلكم الله ربكم الحق)، أي الذي رأيتموه مؤثراً من الأسباب ليس هو غير الله تعالى ولا له استقلال بنفسه، بل هو الله تعالى من جهة وجوده وفعله، إذ ليس الوجود والفعل إلاَّ لله تعالى وحده، لا شريك له، فلو نسبتم الفعل والأثر إلى الأسباب، على جهة أنها وجوه الحق تعالى وذاته ظاهرة فيها، من غير حلول ولا اتحاد ولا امتزاج لكنتم مصيبين. فالله هو الحق الثابت، (وماذا بعد الحق إلاَّ الضلال؟) أي إلاَّ صور وتقادير وخيالات وأوهام وضلالات لا ثبات لها بل تفنى وتتجدد في كل آن لكونها ليست حقاً. (فأنَّى تصرفون؟!)، استفهام إنكاري وتعجب من عمايتهم، كيف صرف الله عقولهم عن رؤية الحق حقاً، والباطل باطلاً، وكيف أشركو العدم الصرف مع وجود الحق؟! والخيال الزائل مع الحق الثابت؟! فإنه تعالى يصرف البصائر والأبصار.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!