الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


145. الموقف الخامس والأربعون بعد المائة

قال تعالى: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾[الأنبياء: 21/ 23].

أي لا يسأل أحد الحق تعالى عما يفعله به، ويوجده له، عند النظر إلى الحقائق وبواطن الأمور، سواء العالم بالحقائق و الجاهل بها،  أما العالم بالحقائق فإنه علم أن الحق تعالى ما فعل به إلاَّ ما اقتضاه استعداده. فما حكم الحق تعالى على أحد ولا فعل به إلاَّ ما طلبه استعداد ذلك المحكوم عليه، المفعول به، من الحق تعالى أن يحكم عليه، ويفعل به، فما حكم الحق عليه، وإنما هو الذي حكم على نفسه، ولهذا لما قالت الأشقياء عند معاينة العذاب: ﴿ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[الأنعام: 6/ 27].

أكذبهم الحق تعالى فقال: ﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَ نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾[الأنعام: 6/28].في دعواهم أنهم لا يكذبون بآيات الله، وأنهم يؤمنون، لأنه لا يمكنهم ثانياً فعل غير ما فعلو أولاً ، لأنه مقتضى استعداداتهم التي هي حقائقهم. وقلب الحقائق محال. فالبرودة مثلاً لا تتقلب حرارة أبداً، وإنما البارد يقبل أن يصير حاراً؛ وكذا الجاهل بالحقائق، فإن سؤاله غير متوجّه إلى الحق تعالى في نفس الأمر، وإنما سؤاله متوجه على من فعل به مالا لا يلائمه، فظلمه في زعمه، وليس ذلك هو الحق، تعالى عن الظلم. وإنما السائل هو الذي ظلم نفسه وإن كان ما فعل به ظلم كما قال تعالى: ﴿ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾[النحل: 16/ 33].

وقال: ﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ﴾[هود: 11/101].

قال الله تعالى: ﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ﴾[غافر: 40/ 31].

إرادة مجردة عن سؤال لاستعدادات، لأنه لا غرض له في ضرر أحد، ولا في تعذيبه ﴿ مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ﴾[النساء: 4/ 147]. وإنما حقائق العباد طلبت بلسان استعدادها إيجاد ماهو مقتضاها فأعطى الحق تعالى الوجود لذلك المطلوب لا غير، إذ الحق تعالى جواد لا يبخل، فكلّ ما طلبته الاستعدادات أعطاها إياه. وقوله: "ما يريد" أبلغ في النفس من قوله "لا يظلم" فإنه إذا انتفت الإرادة انتفى الفعل بالأولى والأحرى.

(وهم يسألون) عمّا فعلوه من الكفر والعصيان والمخالفة للأوامر الشرعية، والأوضاع الحكيمة، حيث إنهم ما خالفوا إلاَّ جهلاً وعناداً وكفراً، ولو علمو استعداداتهم وما هي مقتضية له ما شقوا، فإنهم حينئذٍ عملوا ما عملوا ممّا ظاهره مخالفة وعصيان بالأمر الإرادي عن كشف؛ فَإِنَّ الأنبياء (عليه السلام) ومن شاء الله كمّل الورثة أن يطلعه على مقتضى استعداده قبل أن يقع ما وقع منه، لا يسألهم الحق تعالى عما فعل بهم، وخلق فيهم، للكشف الحاصل، ولهذا كل ما يكون منهم ل يعد مخالفة في نفس الأمر، ولا يعاقبون عليه في الآخرة، وإن عدَّ مخالفة في ظاهر الشرع الحكيم، وكان لهم أن يعتذروا ويحتجوا بالقدر، كما ورد في الصحيح: قال موسى لآدم (عليه السلام): أنت الذي أخرجتنا من الجنة بخطيئتك، قال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، تلومني على أمر قدّره الله عليَّ قبل أن يخلقني؟ وإلى هذا فيشير العارف الكبير عبد الكليم الجيلي بقوله:

وما ذاك إلاَّ أنه قبل وقعه

يخبر قلبي بالذي هو واقع

فنأتي الذي نأتيه والقلب ناظر

 

لمثبته في اللوح والجفن دامع

فإن كنت في حكم الشريعة عاصي

فإني في حكم الحقيقة طائع

وأما المحجوبون فليس لهم أن يعتذروا ويحتجوا بالقدر،  فإنّهم ما حصل لهم علم بما تقتضيه حقائقهم في الشر والكفر والعصيان، وهذه المسألة من مبادئ سرّ القدر، وقد نهى الشارع عن الخوض فيه مخافة على الضعفاء، فإن الخوض فيه يصير بصاحبه إلى الإلحاد ورفض الشرائع، نعوذ بالله من درك الشقاء، وسوء القضاء، آمين.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!