الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


134. الموقف الرابع والثلاثون بعد المائة

قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً﴾[الفرقان: 25/ 45 - 46].

للحق تعالى ثلاثة ظلال: الظل الأول هو الوجود الإضافي المسمّى بنفس الرحمن، والتعين الأول، و الوحدة المطلقة، والحقيقة المحمدّية، وهو ظل مجمل غير مفصل. والظل الثاني هو المسمّى بالتعّين الثاني، وبمرتبة الواحدية والإنسان الكامل؛ وهذ الظل مفصّل تفصيلاً معنوياً علمياً، والظل الثالث هو العالم كلّه ملكه وملكوته، المسمّى بالصور الخارجية والأعيان المفصّلة و بالوجود الخارجي. فهي ثلاثة ظلال في مقام الفرق، وظل واحد في مقام الجمع، بل ولا ظلّ أصلاً بالنسبة إلى الوجود كما قيل:

مراتب بالوجود صارت

حقائق الغيب و العيان

وليس غير الوجود فيه

 

بظاهر، و الجميع فان

فالظل الأول ظل الذات، والظل الثاني ظل الأسماء والصفات، باعتبار الذات، والظل الثالث ظل الصفات و الأسماء لا باعتبار الذات، فا فهم أو سلّم. وامتداد الظل هو تعين، وتميزه تمييز المقيد عن المطلق. وليس للمقيد حقيقة مغايرة للمطلق؛ والامتياز والتعين أمور عدمية في الخارج كسائر النسب. ولو شاء لجعله ساكناً باطناً في الذات، غير متميّز عنها التميز النسبي لا الحقيقي، إذ ليس الظل وجود مغاير لوجود ما امتدَّ عنه، والقضية الشرطية لا. تقتضي الوقوع ولا الإمكان، كم قال تعالى: ﴿وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾[الأنبياء: 21/29].

ومحال أن يقول الملك أني إله، وقال: ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾[الزمر: 39/ 4].

أي لتبنّاه، وقال: ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ﴾[الأنبياء: 21/ 17]

وكل هذا محال، فلا تتعلّق به مشيئته تعالى ، إذ لا يشاء إلاَّ م علم قبوله للإيجاد، وما علم تعالى للمحال قبول إيجاد فلا يشاءه، فلا تتعلّق به قدرته، لأن اسمه تعالى الحكيم، فيعطي كلّ مستعد استعداده، وليس للمحال استعداد قبول الوجود، لا عجزاً فإنه على كل شيء قدير، فلا يقال: إنه عاجز عن المحال، فالمراد من قوله: ﴿وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً﴾

نفي الإيجاب الذاتي، والعلية التي قالت بها طائفة من العقلاء، وإثبات الاختيار المعروف عند العموم، فلا يمكن أن لا يمدّ الظل بأن يبقيه باطناً ساكناً في العدم والعلم. بل لا يكون إلاَّ مدّه وإيجاده. ولا لكون الذات العلية علّة، كم قال الحكماء، ولا لسبق العلم، كما قالت الأشاعرة، لأن العلم صفة انكشاف ماهو صفة اقتضاء، ولكن لاقتضاء الأسماء والصفات الإلهية ظهورها بآثارها، وهو المسمّى بالكمال الأسمائي. لأن للوجود الحق كمالين: كمال ذاتي، وهو في هذا الكمال غني عن العالمين، وعن أسمائه وصفاته أيضاً؛ وكمال أسمائي وهو المقتضي لظهور الأسماء والصفات بآثارها فالمقتضي هي الأسماء والصفات المؤثرة لا غير.

﴿ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً﴾[الفرقان: 25/ 45].

علامة منصوبة لمعرفة أحوال هذا الظلّ المذكورز فإن الدليل قد يراد به العلامة المنصوبة لمعرفة المدلول، ولهذا يسمى الدخان دليلاً على النار. فكما أنه في الحسّ، لولا نور الشمس ما ظهرت للشخوص ظلال، فكذلك هذا الظل، لولا الذات من حيث اسمه تعالى النور ما ظهر لهذا الظلّ عين. وكما أنه في الحسّ، لولا الشاخص الذي يرسم الظلّ ما ظهر للظلّ عين، فكذلك هنا، لولا مرتبة الصفات والأسماء ما ظهر هذ الظل. وكما أنه في الحسّ لابدَّ من محلّ يمتد عليه الظل كالأرض والماء، فكذلك هذ الظل، لولا الأعيان الثابتة في العلم والعدم ما ظهر هذا الظل. وكما أنه في الحسّ، قرب غروب الشمس تظهر للشخوص ظلال ممتدة لا نهاية لها، فكذلك هذا الظل لا نهاية لامتداده، بحسب ما يمتد عنه، من أحوال كل عين من الأعيان. وقس على ما ذكرت مالم أذكر.

﴿ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً﴾[الفرقان: 25/ 46].

قبضة: هو ما يلحق كلّ عين عند نهاية أمدها المقدّر لها من عدم صورتها؛ فقبض الظل، هو رجوعه إلى ما امتدَّ عنه، فيصير إلى العلم بعد العين، أعني صورته، وأم حقيقته وجوهره فلا يلحقها عدم أصلاً بعد الوجود، وهذا القبض هو معنى قوله:

وقوله: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ﴾[هود: 11/ 123].

وقوله: ﴿وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾[الأنبياء: 21/ 35].

وقوله: ﴿أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ﴾[الشورى: 42/ 53].

وقوله: ﴿وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾[العنكبوت: 21].

ونحو ذلك.

ويصحّ ثم قبضناه، أي الظل، بعد أن مددناه، قبضاً دفعياً، في نظر بعض المخلوقين، كالأرواح، ومن شاء الله، أي جعلناه غير مشهود لهم، مستقلاً من أول فطرتهم. وقبضناه قبضاً تدريجياً حالاً بعد حال، كما هو حال بني آدم. فإنَّ الظل إنما ينقبض في شهودهم بعد امتداده شيئاً فشيئاً، وهو الانسلاخ من التعيّنات الخياليّة العدميّة، على أن لا يبقى من الظل شيء في شهودهم. فيبقى السرّ الإلهي، وهو الذي يشهد الله من كل مشاهد. فما يشهد الله إلاَّ الله، ولا يعرف الله إلاَّ الله.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!