المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة الروم: [الآية 30]
![]() |
![]() |
![]() |
سورة الروم | ||
![]() |
![]() |
![]() |
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
[نصيحة وإشارة: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ . . .» الآية ]
" اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ» فاللّه تعالى خلقنا من ضعف وما خلقنا إلا عليه ، فما أنشأ العالم إلا منه وعليه ، فخلق الإنسان فقيرا إلى ربه ، مسكينا ظاهر الضعف والحاجة بلسان الحال والمقال ، وهكذا الطفل عند ولادته لا يقدر على القيام ، فهو طريح قريب إلى أصله وهو الأرض ، وكذا المريض الذي لا يقدر على القيام والقعود ، ويبقى طريحا لضعفه وهو رجوعه إلى أصله ، فالضعف أصل الإنسان لكونه ممكنا ، والممكن لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الترجيح على كل حال ، ثم جعل اللّه له قوة عارضة وهو قوله : «ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً» لما نقلنا من حال الطفولة إلى حال الشباب والتكليف ، فهي قوة الشباب ، وذلك حال الفتوة وفيها يسمى فتى ، وما قرن معها شيئا من الضعف ، فإن الفتوة ليس فيها شيء من الضعف ، إذ هي حالة بين الطفولة والكهولة ، وهو عمر الإنسان من زمان بلوغه إلى تمام الأربعين من ولادته ، إلا أنه مع هذه القوة لا يستقل ، فأمر بطلب المعونة ،
ثم ردّ اللّه تعالى الإنسان إلى أصله من الضعف ، فإن القوة للّه جميعا ، والعبد موطنه الضعف والعبودية ، والضعف مرتبته ، فإنه خلق من ضعف ابتداء ، وردّ إلى الضعف انتهاء ، فقال عزّ وجل : «ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ» قوة الشباب «ضَعْفاً»
يعني ضعف الكهولة إلى آخر العمر «وَشَيْبَةً» يعني وقارا أي سكونا لضعفه عن الحركة ، فإن الوقار من الوقر وهو الثقل ، فقرن مع هذا الضعف الثاني الشيبة التي هي الوقار ، فإن الطفل وإن كان ضعيفا فإنه متحرك جدا ،
روي أن إبراهيم عليه السلام لما رأى الشيب قال : يا رب ما هذا ؟ قال:
الوقار ، قال : اللهم زدني وقارا ؛ فالضعف هو أول العالم وآخره ، فإنا ما وجدنا للقوة ذكرا في الأول ولا في الآخر ، بل جاءت في الوسط وهي محل الدعوى الواقعة في الإنسان ، وإذا نظرنا في معنى هذا الضعف الذي خلقنا منه لوجدناه عدم الاستقلال بالإيجاد ، فشرع لنا الاستعانة به في الاقتدار ، ثم جعل لنا قوة غير مستقلة ، فإنه لولا أن للمكلف نسبة وأثرا في العمل ما صح التكليف ولا صح طلب المعونة من ذي القوة المتين ، فهو وإن خلقنا من ضعف فإنه جعل فينا قوة لولاها ما كلفنا بالعمل والترك ، لأن الترك منع النفس من التصرف في هواها ، وبهذا عمت القوة العمل والترك ، وقرن الشيب بالضعف الذي رجعنا إليه ، ليرينا بذلك الشيب وهو نور أن ذلك الضعف ما هو ضعف ثان من أجل ما نكّره ، فهو رجع إلى الضعف الأول ، فكان الضعف الثاني رجوعا إلى الأصل ، فسمي هرما ، والشيب للشيخوخة ، وهذا الضعف الأخير إنما أعده اللّه لإقامة النشأة الآخرة عليه كما قامت النشأة الدنيا على الضعف ، وإنما كان هذا ليلازم الإنسان ذاته الذلة والافتقار وطلب المعونة والحاجة إلى خالقه ، ومع هذا كله يذهل عن أصله ويتيه بما يعرض له من القوة ، فإذا استوى قائما وبعد عن أصله (وهو الأرض) تفر عن وتجبّر وادعى القوة ، وقال : أنا ؛ فالرجل من كان مع اللّه في حال قيامه وصحته ، كحاله في اضطجاعه من المرض والضعف وهو عزيز
- نصيحة -الاعتناء بالصغير رحمة به لضعفه ، فإذا كبر وكل إلى نفسه ، فإن بقي في كبره على أصله من الضعف صحبته الرحمة ، وإن تكبر عن أصله وادعى القوة المجعولة فيه بعد ضعفه أضاعه اللّه في كبره برد الضعف إليه ، فاستقذره وليه وتمنى مفارقته ، وفي ضعف صغره كان يشتهي حياته ويرغب في تقبيله ولا يستقذره
- إشارة - «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً» هذا حال وقت نظرك إن نظرت «ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً» فنكصت على عقبك ، فانظر كيف تكون ؟.
[سورة الروم (30) : الآيات 55 إلى 60]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
(31) سورة لقمان مكيّة
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
------------
(54) الفتوحات ج 4 / 281 - ج 1 / 213 - ج 4 / 11 - ج 1 / 275">275">275">275 - ج 4 / 281 ، 11 ، 282 - ج 1 / 241">241 - ج 4 / 11 - ج 1 / 275">275">275">275 - ج 2 / 29 - ج 3 / 379 - ج 4 / 282 - ج 1 / 241">241 - ج 4 / 281 ، 11 ، 281 - ج 1 / 275">275">275">275 ، 213 - ج 4 / 415 - كتاب الشاهدتفسير ابن كثير:
يقول تعالى : فسدد وجهك واستمر على الذي شرعه الله لك ، من الحنيفية ملة إبراهيم ، الذي هداك الله لها ، وكملها لك غاية الكمال ، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة ، التي فطر الله الخلق عليها ، فإنه تعالى فطر خلقه على [ معرفته وتوحيده ، وأنه لا إله غيره ، كما تقدم عند قوله تعالى : ( وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ) [ الأعراف : 172 ] ، وفي الحديث : " إني خلقت عبادي حنفاء ، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم " . وسنذكر في الأحاديث أن الله تعالى فطر خلقه على ] الإسلام ، ثم طرأ على بعضهم الأديان الفاسدة كاليهودية أو النصرانية أو المجوسية .
وقوله : ( لا تبديل لخلق الله ) قال بعضهم : معناه لا تبدلوا خلق الله ، فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها . فيكون خبرا بمعنى الطلب ، كقوله تعالى : ( ومن دخله كان آمنا ) [ آل عمران : 97 ] ، وهذا معنى حسن صحيح .
وقال آخرون : هو خبر على بابه ، ومعناه : أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة ، لا يولد أحد إلا على ذلك ، ولا تفاوت بين الناس في ذلك; ولهذا قال ابن عباس ، وإبراهيم النخعي ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد في قوله : ( لا تبديل لخلق الله ) أي : لدين الله .
وقال البخاري : قوله : ( لا تبديل لخلق الله ) : لدين الله ، خلق الأولين : [ دين الأولين ] ، والدين والفطرة : الإسلام .
حدثنا عبدان ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا يونس ، عن الزهري ، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود يولد إلا على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء " ؟ ثم يقول : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) .
ورواه مسلم من حديث عبد الله بن وهب ، عن يونس بن يزيد الأيلي ، عن الزهري ، به . وأخرجاه - أيضا - من حديث عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي معنى هذا الحديث قد وردت أحاديث عن جماعة من الصحابة ، فمنهم الأسود بن سريع التميمي . قال الإمام أحمد :
حدثنا إسماعيل ، حدثنا يونس ، عن الحسن عن الأسود بن سريع [ التميمي ] قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزوت معه ، فأصبت ظهرا ، فقتل الناس يومئذ ، حتى قتلوا الولدان . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية ؟ " . فقال رجل : يا رسول الله ، أما هم أبناء المشركين ؟ فقال : " ألا إنما خياركم أبناء المشركين " . ثم قال : " لا تقتلوا ذرية ، لا تقتلوا ذرية " . وقال : " كل نسمة تولد على الفطرة ، حتى يعرب عنها لسانها ، فأبواها يهودانها أو ينصرانها " .
ورواه النسائي في كتاب السير ، عن زياد بن أيوب ، عن هشيم ، عن يونس - وهو ابن عبيد - عن الحسن البصري ، به .
ومنهم جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال الإمام أحمد :
حدثنا هاشم ، حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن الحسن ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة ، حتى يعرب عنه لسانه ، فإذا عبر عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا " .
ومنهم عبد الله بن عباس الهاشمي ، قال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة ، حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين ، فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم " . أخرجاه في الصحيحين ، من حديث أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مرفوعا بذلك .
وقد قال أحمد أيضا : حدثنا عفان ، حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - أنبأنا عمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس قال : أتى علي زمان وأنا أقول : أولاد المسلمين مع أولاد المسلمين ، وأولاد المشركين مع المشركين . حتى حدثني فلان عن فلان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنهم فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " . قال : فلقيت الرجل فأخبرني . فأمسكت عن قولي .
ومنهم عياض بن حمار المجاشعي ، قال الإمام أحمد :
حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا هشام ، حدثنا قتادة ، عن مطرف ، عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته : " إن ربي - عز وجل - أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا ، كل مال نحلته عبادي حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ، ثم إن الله - عز وجل - نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب ، وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرؤه نائما ويقظان . ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشا ، فقلت : يا رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة . قال : استخرجهم كما استخرجوك ، واغزهم نغزك ، وأنفق عليهم فسننفق عليك . وابعث جيشا نبعث خمسة مثله ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك " . قال : " وأهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصدق موفق ، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم ، ورجل عفيف فقير متصدق . وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زبر له ، الذين هم فيكم تبعا ، لا يبتغون أهلا ولا مالا ، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه . ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك " وذكر البخيل ، أو الكذاب ، والشنظير : الفحاش .
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه من طرق عن قتادة ، به .
وقوله تعالى : ( ذلك الدين القيم ) أي : التمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين القويم المستقيم ، ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) أي : فلهذا لا يعرفه أكثر الناس ، فهم عنه ناكبون ، كما قال تعالى : ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) [ يوسف : 103 ] ، ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) الآية [ الأنعام : 116 ] .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
يأمر تعالى بالإخلاص له في جميع الأحوال وإقامة دينه فقال: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ } أي: انصبه ووجهه إلى الدين الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان بأن تتوجه بقلبك وقصدك وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها. وشرائعه الباطنة كالمحبة والخوف والرجاء والإنابة، والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة بأن تعبد اللّه فيها كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
وخص اللّه إقامة الوجه لأن إقبال الوجه تبع لإقبال القلب ويترتب على الأمرين سَعْيُ البدن ولهذا قال: { حَنِيفًا } أي: مقبلا على اللّه في ذلك معرضا عما سواه.
وهذا الأمر الذي أمرناك به هو { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } ووضع في عقولهم حسنها واستقباح غيرها، فإن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وضع اللّه في قلوب الخلق كلهم، الميل إليها، فوضع في قلوبهم محبة الحق وإيثار الحق وهذا حقيقة الفطرة.
ومن خرج عن هذا الأصل فلعارض عرض لفطرته أفسدها كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"
{ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } أي: لا أحد يبدل خلق اللّه فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه اللّه، { ذَلِكَ } الذي أمرنا به { الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي: الطريق المستقيم الموصل إلى اللّه وإلى كرامته، فإن من أقام وجهه للدين حنيفا فإنه سالك الصراط المستقيم في جميع شرائعه وطرقه، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } فلا يتعرفون الدين القيم وإن عرفوه لم يسلكوه.
تفسير البغوي
قوله تعالى : ( فأقم وجهك للدين ) أي : أخلص دينك لله ، قاله سعيد بن جبير ، وإقامة الوجه : إقامة الدين ، وقال غيره : سدد عملك . والوجه ما يتوجه إليه الإنسان ، ودينه وعمله مما يتوجه إليه لتسديده ) ( حنيفا ) مائلا مستقيما عليه ( فطرة الله ) دين الله ، وهو نصب على الإغراء ، أي : إلزم فطرة الله ( التي فطر الناس عليها ) أي : خلق الناس عليها ، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين أن المراد بالفطرة : الدين ، وهو الإسلام . وذهب قوم إلى أن الآية خاصة في المؤمنين . وهم الذين فطرهم الله على الإسلام : أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمش الزيادي ، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ، أخبرنا أحمد بن يوسف السلمي ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن همام بن منبه قال : حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من يولد يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتجون البهيمة ، هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها ؟ ، قالوا يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير ؟ قال : " الله أعلم بما كانوا عاملين " .
ورواه الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة من غير ذكر من يموت وهو صغير ، وزاد : ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) . قوله : " من يولد يولد على الفطرة " يعني على العهد الذي أخذ الله عليهم بقوله : " ألست ، بربكم قالوا بلى " ( الأعراف - 172 ) ، وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار ، وهو الحنيفية التي وقعت الخلقة عليها وإن عبد غيره ، قال تعالى : " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " ( الزخرف - 87 ) ، وقالوا : " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى " ( الزمر - 3 ) ، ولكن لا عبرة بالإيمان الفطري في أحكام الدنيا ، وإنما يعتبر الإيمان الشرعي المأمور به المكتسب بالإرادة والفعل ، ألا ترى أنه يقول : " فأبواه يهودانه " ؟ فهو مع وجود الإيمان الفطري فيه محكوم له بحكم أبويه الكافرين ، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم " . ويحكى معنى هذا عن الأوزاعي ، وحماد بن سلمة .
وحكي عن عبد الله بن المبارك أنه قال : معنى الحديث إن كل مولود يولد على فطرته ، أي : على خلقته التي جبل عليها في علم الله تعالى من السعادة أو الشقاوة ، فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليها ، وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها ، فمن أمارات الشقاوة للطفل أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين ، فيحملانه - لشقائه - على اعتقاد دينهما . وقيل : معناه أن كل مولود يولد في مبدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلة السليمة والطبع المتهيئ لقبول الدين ، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ، لأن هذا الدين موجود حسنه في العقول ، وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره لآفة من آفات النشوء والتقليد ، فلو سلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره . . . ثم يتمثل بأولاد اليهود والنصارى واتباعهم لآبائهم والميل إلى أديانهم فيزلون بذلك على الفطرة السليمة والمحجة المستقيمة . ذكر أبو سليمان الخطابي هذه المعاني في كتابه .
قوله : ( لا تبديل لخلق الله ) فمن حمل الفطرة على الدين قال : معناه لا تبديل لدين الله ، وهو خبر بمعنى النهي ، أي : لا تبدلوا دين الله . قال مجاهد ، وإبراهيم : معنى الآية الزموا فطرة الله ، أي دين الله ، واتبعوه ولا تبدلوا التوحيد بالشرك ( ذلك الدين القيم ) المستقيم ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) وقيل : لا تبديل لخلق الله أي : ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاء لا يتبدل ، فلا يصير السعيد شقيا ولا الشقي سعيدا . وقال عكرمة ومجاهد : معناه تحريم إخصاء البهائم .
الإعراب:
(فَأَقِمْ) الفاء حرف استئناف (فَأَقِمْ) أمر فاعله مستتر (وَجْهَكَ) مفعول به والجملة مستأنفة (لِلدِّينِ) متعلقان بالفعل (حَنِيفاً) حال (فِطْرَتَ) مفعول به لفعل محذوف أي اتبعوا (اللَّهِ) لفظ جلالة مضاف إليه (الَّتِي) صفة فطرة (فَطَرَ) ماض فاعله مستتر (النَّاسَ) مفعول به والجملة صلة (عَلَيْها) متعلقان بالفعل (لا) نافية للجنس (تَبْدِيلَ) اسمها المبني على الفتح (لِخَلْقِ) متعلقان بمحذوف خبر لا (اللَّهِ) لفظ الجلالة مضاف إليه والجملة حال (ذلِكَ الدِّينُ) مبتدأ وخبره والجملة مستأنفة (الْقَيِّمُ) صفة.
(وَلكِنَّ) الواو حرف استئناف ولكن حرف مشبه بالفعل (أَكْثَرَ) اسمه المضاف (النَّاسَ) مضاف إليه (لا) نافية (يَعْلَمُونَ) مضارع مرفوع والواو فاعله والجملة الفعلية خبر لكن والجملة الاسمية مستأنفة لا محل لها.