المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة البقرة: [الآية 200]
سورة البقرة | ||
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
أصل التكاليف مشتق من الكلف وهي المشقات «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» وهو ما آتاها من التمكن الذي هو وسعها ، فقد خلق سبحانه لنا التمكن من فعل بعض الأعمال ، نجد ذلك من نفوسنا ولا ننكره ، وهي الحركة الاختيارية ، كما جعل سبحانه فينا المانع من بعض الأفعال الظاهرة فينا ، ونجد ذلك من نفوسنا ، كحركة المرتعش الذي لا اختيار للمرتعش فيها ، وبذلك القدر من التمكن الذي يجده الإنسان في نفسه صح أن يكون مكلفا ، ولا يحقق الإنسان بعقله لما ذا يرجع ذلك التمكن ، هل لكونه قادرا أو لكونه مختارا ؟ وإن كان مجبورا في اختياره ، ولا يمكن رفع الخلاف في هذه المسألة ، فإنها من المسائل المعقولة ولا يعرف الحق فيها إلا بالكشف ، وإذا بذلت النفس الوسع في طاعة اللّه لم يقم عليها حجة ،
فإن اللّه أجلّ أن يكلف نفسا إلا وسعها ، ولذلك كان الاجتهاد في الفروع والأصول «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» لما كانت النفوس ولاة الحق على الجوارح ، والجوارح مأمورة مجبورة غير مختارة فيما تصرف فيه ، مطيعة بكل وجه ، والنفوس ليست كذلك ، فإذا عملت لغير عبادة لا يقبل العمل من حيث القاصد لوقوعه الذي هو النفس المكلفة ، لكن من حيث أن العمل صدر من الجوارح أو من جارحة مخصوصة ، فإنها تجزى به تلك الجارحة ، فيقبل العمل لمن ظهر منه ولا يعود منه على النفس الآمرة به للجوارح شيء إذا كان العمل خيرا بالصورة كصلاة المرائي والمنافق وجميع ما يظهر على جوارحه من أفعال الخير الذي لم تقصد به النفس عبادة ، وأما أعمال الشر المنهي عنها فإن النفس تجزى بها للقصد ، والجوارح لا تجزى بها لأنها ليس في قوتها الامتناع عما تريد النفوس بها من الحركات ، فإنها مجبورة على السمع والطاعة لها ، فإن جارت النفوس فعليها ، وللجوارح رفع الحرج ، بل لهم الخير الأتم ، وإن عدلت النفوس فلها وللجوارح ، لذلك قال تعالى : «لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فميز اللّه بين الكسب والاكتساب باللام وعلى ، وهذه الآية بشرى من اللّه حيث جعل المخالفة اكتسابا والطاعة كسبا ، فقال : «لَها ما كَسَبَتْ» فأوجبه لها .
وقال في المعصية والمخالفة : «وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ» فما أوجب لها الأخذ بما اكتسبته ، فالاكتساب ما هو حق لها فتستحقه ، فتستحق الكسب ولا تستحق الاكتساب ، والحق لا يعامل إلا بالاستحقاق ، والعفو من اللّه يحكم على الأخذ بالجريمة «رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا» اعلم أن الرحمة أبطنها اللّه في النسيان الموجود في العالم ، وأنه لو لم يكن لعظم الأمر وشق ، وفيما يقع فيه التذكر كفاية ، وأصل هذا وضع الحجاب بين العالم وبين اللّه في موطن التكليف ، إذ كانت المعاصي والمخالفات مقدرة في علم اللّه فلا بد من وقوعها من العبد ضرورة ، فلو وقعت مع التجلي والكشف لكان مبالغة في قلة الحياء من اللّه حيث يشهده ويراه ، والقدر حاكم بالوقوع فاحتجب رحمة بالخلق لعظيم المصاب ، قال صلّى اللّه عليه وسلم:
إن اللّه إذا أراد نفاذ قضائه وقدره سلب ذوي العقول عقولهم ، حتى إذا أمضى فيهم قضاءه وقدره ردها عليهم ليعتبروا ، وقال صلّى اللّه عليه وسلم : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، فلا يؤاخذهم اللّه به في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الآخرة فمجمع عليه من الكل ، وأما في الدنيا فأجمعوا على رفع الذنب ، واختلفوا في الحكم ، وكذلك في الخطأ على قدر ما شرع الشارع في
أشخاص المسائل ، مثل الإفطار ناسيا في رمضان وغير ذلك من المسائل ، فإن اللّه تعالى الذي شرع المعصية والطاعة وبيّن حكمهما ، رفع حكم الأخذ بالمعصية في حق الناسي والمخطئ «رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ، رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ» وهذا تعليم من الحق لنا أن نسأله في أن لا يقع منه في المستقبل ما لم يقع في الحال ، «وَاعْفُ عَنَّا» أي كثر خيرك لنا وقلل بلاءك عنا ، أي قلل ما ينبغي أن يقلل وكثر ما ينبغي أن يكثر ، فإن العفو من الأضداد يطلق بإزاء الكثرة والقلة ، وليس إلا عفوك عن خطايانا التي طلبنا منك أن تسترنا عنها حتى لا تصيبنا ، وهو قولنا : «وَاغْفِرْ لَنا» أي استرنا من المخالفات حتى لا تعرف مكاننا فتقصدنا «وَارْحَمْنا» برحمة الامتنان ورحمة الوجوب ، أي برحمة الاختصاص.
------------
(286) التنزلات الموصلية - الفتوحات ج 1 / 341 - ج 2 / 381 - ج 3 / 348 ، 123 ، 511 - ج 2 / 535 ، 684 - ج 3 / 381 - ج 1 / 435 ، 434تفسير ابن كثير:
يأمر تعالى بذكره والإكثار منه بعد قضاء المناسك وفراغها .
وقوله : ( كذكركم آباءكم ) اختلفوا في معناه ، فقال ابن جريج ، عن عطاء : هو كقول الصبي : " أبه أمه " ، يعني : كما يلهج الصبي بذكر أبيه وأمه ، فكذلك أنتم ، فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك . وكذا قال الضحاك والربيع بن أنس . وروى ابن جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس نحوه .
وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس [ قال ] : كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ويحمل الحمالات [ ويحمل الديات ] . ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم . فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : ( فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا )
قال ابن أبي حاتم : وروي عن أنس بن مالك ، وأبي وائل ، وعطاء بن أبي رباح في أحد قوليه ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة في إحدى رواياته ، ومجاهد ، والسدي ، وعطاء الخراساني ، والربيع بن أنس ، والحسن ، وقتادة ، ومحمد بن كعب ، ومقاتل بن حيان ، نحو ذلك . وهكذا حكاه ابن جرير أيضا عن جماعة ، والله أعلم .
والمقصود منه الحث على كثرة الذكر لله عز وجل ; ولهذا كان انتصاب قوله : ( أو أشد ذكرا ) على التمييز ، تقديره كذكركم آباءكم أو أشد منه ذكرا . و " أو " هاهنا لتحقيق المماثلة في الخبر ، كقوله : ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) [ البقرة : 74 ] ، وقوله : ( يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية ) [ النساء : 77 ] ، ) وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) [ الصافات : 147 ] ، ( فكان قاب قوسين أو أدنى ) [ النجم : 9 ] . فليست هاهنا للشك قطعا ، وإنما هي لتحقيق الخبر عنه بأنه كذلك أو أزيد منه . ثم إنه تعالى أرشد إلى دعائه بعد كثرة ذكره ، فإنه مظنة الإجابة ، وذم من لا يسأله إلا في أمر دنياه ، وهو معرض عن أخراه ، فقال : ( فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ) أي : من نصيب ولا حظ . وتضمن هذا الذم التنفير عن التشبه بمن هو كذلك . قال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف ، فيقولون : اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن . لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا ، فأنزل الله فيهم : ( فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ) وكان يجيء بعدهم آخرون [ من المؤمنين ] فيقولون : ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) فأنزل الله : ( أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب ) ولهذا مدح من يسأله للدنيا والأخرى
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق, وأن الجميع يسألونه مطالبهم, ويستدفعونه ما يضرهم, ولكن مقاصدهم تختلف، فمنهم: { مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا } أي: يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته, وليس له في الآخرة من نصيب, لرغبته عنها, وقصر همته على الدنيا، ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين, ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه، وكل من هؤلاء وهؤلاء, لهم نصيب من كسبهم وعملهم, وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم, وهماتهم ونياتهم, جزاء دائرا بين العدل والفضل, يحمد عليه أكمل حمد وأتمه، وفي هذه الآية دليل على أن الله يجيب دعوة كل داع, مسلما أو كافرا, أو فاسقا، ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه, دليلا على محبته له وقربه منه, إلا في مطالب الآخرة ومهمات الدين. والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد, من رزق هنيء واسع حلال, وزوجة صالحة, وولد تقر به العين, وراحة, وعلم نافع, وعمل صالح, ونحو ذلك, من المطالب المحبوبة والمباحة. وحسنة الآخرة, هي السلامة من العقوبات, في القبر, والموقف, والنار, وحصول رضا الله, والفوز بالنعيم المقيم, والقرب من الرب الرحيم، فصار هذا الدعاء, أجمع دعاء وأكمله, وأولاه بالإيثار, ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به, والحث عليه.
تفسير البغوي
قوله تعالى : ( فإذا قضيتم مناسككم ) أي فرغتم من حجكم وذبحتم نسائككم أي ذبائحكم ، يقال نسك الرجل ينسك نسكا إذا ذبح نسيكته وذلك بعد رمي جمرة العقبة والاستقرار بمنى ( فاذكروا الله ) بالتكبير والتحميد والثناء عليه ( كذكركم آباءكم ) وذلك أن العرب كانت إذا فرغت من الحج وقفت عند البيت فذكرت مفاخر آبائها فأمرهم الله تعالى بذكره وقال : فاذكروني فأنا الذي فعلت ذلك بكم وبآبائكم وأحسنت إليكم ، وإليهم
قال ابن عباس وعطاء : معناه فاذكروا الله كذكر الصبيان الصغار الآباء وذلك أن الصبي أول ما يتكلم يلهج بذكر أبيه لا بذكر غيره فيقول الله فاذكروا الله لا غير كذكر الصبي أباه أو أشد وسئل ابن عباس عن قوله ( فاذكروا الله كذكركم آباءكم ) فقيل قد يأتي على الرجل اليوم ولا يذكر فيه أباه قال ابن عباس : ليس كذلك ولكن أن تغضب لله إذا عصي أشد من غضبك لوالديك إذا شتما وقوله تعالى ( أو أشد ذكرا ) يعني وأشد ذكرا وبل أشد أي وأكثر ذكرا ( فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا ) أراد به المشركين كانوا لا يسألون الله تعالى في الحج إلا الدنيا يقولون اللهم أعطنا غنما وإبلا وبقرا ، وعبيدا وكان الرجل يقوم فيقول : يارب إن أبي كان عظيم القبة كبير الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته قال قتادة هذا عبد نيته الدنيا لها أنفق ولها عمل ونصب ( وما له في الآخرة من خلاق ) حظ ونصيب
الإعراب:
(فَإِذا) الفاء استئنافية إذا ظرف لما يستقبل من الزمن.
(قَضَيْتُمْ) فعل ماض وفاعل والجملة في محل جر بالإضافة.
(مَناسِكَكُمْ) مفعول به.
(فَاذْكُرُوا) الفاء واقعة في جواب الشرط اذكروا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل.
(اللَّهَ) لفظ الجلالة مفعول به والجملة لا محل لها جواب شرط غير جازم.
(كَذِكْرِكُمْ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة أي: اذكروا الله ذكرا مماثلا لذكر آباءكم.
(آباءَكُمْ) مفعول به للمصدر ذكر، والكاف في محل جر بالإضافة.
(أَوْ أَشَدَّ) أو حرف عطف أشد معطوف على ذكر مجرور بالفتحة نيابة عن الكسرة ممنوع من الصرف لأنه صفة على وزن أفعل.
(ذِكْرًا) تمييز منصوب.
(فَمِنَ النَّاسِ) الفاء استئنافية وجار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
(مَنْ) اسم موصول في محل رفع مبتدأ مؤخر.
(يَقُولُ) فعل مضارع وفاعله هو يعود على من والجملة الفعلية صلة الموصول، وجملة: (من يقول) استئنافية لا محل لها.
(رَبَّنا) منادى مضاف منصوب، ونا في محل جر بالإضافة.
(آتِنا) فعل دعاء مبني على حذف حرف العلة المدلول عليه بالكسرة والفاعل أنت ونا مفعول به أول والمفعول الثاني محذوف أي: حسنة.
(فِي الدُّنْيا) متعلقان بالفعل قبلهما والجملة مقول القول.
(وَما) الواو حالية ما نافية.
(لَهُ) متعلقان بمحذوف خبر مقدم.
(فِي الْآخِرَةِ) جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال.
(مِنْ خَلاقٍ) من حرف جر زائد خلاق اسم مجرور لفظا مرفوع محلا على أنه مبتدأ، والجملة حالية.