المكتبة الأكبرية: القرآن الكريم: سورة الأنفال: [الآية 2]
سورة الأنفال | ||
تفسير الجلالين:
تفسير الشيخ محي الدين:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
«وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ» فأمر بصلة الأرحام - من باب الإشارة - أمر سبحانه بصلة الأرحام ، وهو تعالى أولى بهذه الصفة منا ، فلا بد أن يكون للرحم وصولا ، فإنها شجنة من الرحمن ، وقد وصلنا اللّه بلا شك من حيث أنه رحم لنا ، فهو الرزاق ذو القوة المتين ، المنعم على أي حالة كنا ، من طاعة أمره أو معصيته ، وموافقة أو مخالفة ، فإنه لا يقطع صلة الرحم من جانبه وإن انقطعت عنه من جانبنا لجهلنا ، فأينما كان الخلق فالحق يصحبه من حيث اسمه الرحمن ، لأن الرحم شجنة من الرحمن ، وجميع الناس رحم ،
والقرابة قرابتان :
قرابة الدين وقرابة الطين ،
فمن جمع بين القرابتين فهو أولى بالصلة ، وإن انفرد أحدهما بالدين والآخر بالطين فتقدم قرابة الدين على قرابة الطين ، وأفضل الصلات في الأرحام صلة الأقرب فالأقرب ، وتنقطع الأرحام بالموت ولا ينقطع الرحم المنسوبة إلى الحق ، فإنه معنا حيثما كن .
(9) سورة التوبة مدنيّة
اختلف الناس في سورة التوبة ، هل هي سورة مستقلة كسائر سور القرآن ؟
أو هل هي وسورة الأنفال سورة واحدة ؟
فإنهم كانوا لا يعرفون كمال السورة إلا بالفصل بالبسملة ، ولم يجئ هنا ، فدل أنها من سورة الأنفال وهو الأوجه
. وإن كان لترك البسملة وجه ، وهو عدم المناسبة بين الرحمة والتبري ، فإن بسملة سورة براءة هي التي في النمل ، والحق تعالى إذا وهب شيئا لم يرجع فيه ولا يرده إلى العدم ، فلما خرجت رحمة براءة وهي البسملة ، حكم التبري من أهلها برفع الرحمة عنهم ، وأعطيت هذه البسملة للبهائم التي آمنت بسليمان عليه السلام ، وهي لا يلزمها إيمان إلا برسولها ، فلما عرفت قدر سليمان وآمنت به أعطيت من الرحمة الإنسانية حظا ، وهي بسم اللّه الرحمن الرحيم الذي سلب عن المشركين . ولكن ما لهذا الوجه تلك القوة بل هو وجه ضعيف ، وسبب ضعفه أنه في الاسم اللّه المنعوت بجميع الأسماء ما هو اسم خاص يقتضي المؤاخذة ، والبراءة إنما هي من الشريك ، وإذا تبرأ من المشرك فلكونه مشركا ، لأن متعلقه العدم ، فإن الخالق لا يتبرأ من المخلوق ، ولو تبرأ منه من كان يحفظ عليه وجوده ، ولا وجود للشريك ، فالشريك معدوم ، فلا شركة في نفس الأمر ، فإذا صحت البراءة من الشريك فهي صفة تنزيه وتبرئة للّه من الشريك ، وللرسول من اعتقاد الجهل .
ووجه آخر في ضعف هذا التأويل الذي ذكرناه وهو عدم المناسبة بين الرحمة والتبري ، وهو أن البسملة موجودة في كل سورة أولها (وَيْلٌ) *وأين الرحمة من الويل ؟
ولهذا كان للقراء في مثل هذه السورة مذهب مستحسن فيمن يثبت البسملة من القراء ، وفيمن يتركها كقراءة حمزة ، وفيمن يخير فيها كقراءة ورش ، والبسملة إثباتها عنده أرجح ، فأثبتناها عند قراءتنا بحرف حمزة في هذين الموضعين لما فيهما من قبيح الوصل بالقراءة ،
وهو أن يقول (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِويل) فبسملوا هنا ، وأما مذهبنا فيه فهو أن يقف على آخر السورة ويقف على آخر البسملة ، ويبتدئ بالسورة من غير وصل .
والخلاف في سورة التوبة أنها والأنفال سورة واحدة حيث لم يفصل بينهما بالبسملة خلاف منقول بين علماء هذا الشأن من الصحابة ، ولما علم اللّه ما يجري من الخلاف في هذه الأمة في حذف البسملة في سورة براءة ، فمن ذهب إلى أنها سورة مستقلة وكان القرآن عنده مائة وثلاث
عشرة سورة فيحتاج إلى مائة وثلاث عشرة بسملة ، أظهر لهم في سورة النمل بسملة ليكمل العدد ، وجاء بها كما جاء بها في أوائل السور بعينها ، فإن لغة سليمان عليه السلام لم تكن عربية ،
وإنما كانت أخرى في كتب لغة هذا اللفظ في كتابه ، وإنما كتب لفظة بلغته يقتضي معناها باللسان العربي إذا عبر عنها بسم اللّه الرحمن الرحيم ، وأتى بها محذوفة الألف كما جاءت في أوائل السور ، ليعلم أن المقصود بها هو المقصود بها في أوائل السور ، ولم يعمل ذلك في (بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها) و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فأثبت الألف هناك ليفرق بين اسم البسملة وغيرها ، ولهذا تتضمن سورة التوبة من صفات الرحمة والتنزل الإلهي كثيرا ، فإن فيها شراء اللّه نفوس المؤمنين منهم بأن لهم الجنة وأي تنزل أعظم من أن يشتري السيد ملكه من عبده ؟
وهل يكون في الرحمة أبلغ من هذا ؟ فلا بد أن تكون التوبة والأنفال سورة واحدة ، أو تكون بسملة النمل السليمانية لسورة التوبة ، ثم انظر في اسمها ، فإن من يجعلها سورة على حدة منفصلة عن سورة الأنفال سماها سورة التوبة ،
وهو الرجعة الإلهية على العباد بالرحمة والعطف ، فإن الرجعة الإلهية لا تكون إلا بالرحمة ، لا يرجع على عباده بغيرها ، فإن كانت الرجعة في الدنيا ردّهم بها إليه ، وإن كانت في الآخرة فتكون رجعتهم مقدمة على رجعته ،
لأن الموطن يقتضي ذلك ، فإن كل من حضر من الخلق في ذلك المشهد سقط ورجع بالضرورة إلى ربه ، فيرجع اللّه إليهم وعليهم ، فمنهم من يرجع اللّه عليه بالرحمة في القيامة ومنازلها ، ومنهم من يرجع عليه بالرحمة بعد دخول النار ،
وذلك بحسب ما تعطيه الأحوال ، فالتوبة تطلب الرحمة ما تطلب التبري ، وإن ابتدأ عزّ وجل بالتبري فقد ختم بآية لم يأت بها ولا وجدت إلا عند من جعل اللّه شهادته شهادة رجلين ،
فإن كنت تعقل علمت ما في هذه السورة من الرحمة المدرجة ، ولا سيما في قوله تعالى : (ومنهم) ومنهم ، وذلك كله رحمة بنا لنحذر الوقوع فيه ، والاتصاف بتلك الصفات ، فإن القرآن علينا نزل ، فلم تتضمن سورة من القرآن في حقنا رحمة أعظم من هذه السورة ، لأنه كثر من الأمور التي ينبغي أن يتقيها المؤمن ويجتنبها ، فلو لم يعرفنا الحق تعالى بها ، وقعنا فيها ولا نشعر ، فهي سورة رحمة للمؤمنين .
كان علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه نائب محمد صلّى اللّه عليه وسلم في تلاوة سورة براءة على أهل مكة ، وقد كان بعث بها أبا بكر ثم رجع عن ذلك فقال : لا يبلغ عني القرآن إلا رجل
من أهل بيتي ، فدعا بعلي فأمره فلحق أبا بكر ، فلما وصل إلى مكة حج أبو بكر بالناس وبلغ عليّ إلى الناس سورة براءة ، وتلاها عليهم نيابة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وهذا مما يدلك على صحة خلافة أبي بكر ومنزلة علي رضي اللّه عنهما .
------------
(75) الفتوحات ج 3 / 531تفسير ابن كثير:
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) قال : المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه ، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ، ولا يتوكلون ، ولا يصلون إذا غابوا ، ولا يؤدون زكاة أموالهم ، فأخبر الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين ، ثم وصف المؤمنين فقال : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) فأدوا فرائضه . ( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ) يقول : تصديقا ( وعلى ربهم يتوكلون ) يقول : لا يرجون غيره .
وقال مجاهد : ( وجلت قلوبهم ) فرقت ، أي : فزعت وخافت . وكذا قال السدي وغير واحد .
وهذه صفة المؤمن حق المؤمن ، الذي إذا ذكر الله وجل قلبه ، أي : خاف منه ، ففعل أوامره ، وترك زواجره . كقوله تعالى : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) [ آل عمران : 135 ] وكقوله تعالى : ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) [ النازعات : 40 ، 41 ] ولهذا قال سفيان الثوري : سمعت السدي يقول في قوله تعالى : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) قال : هو الرجل يريد أن يظلم - أو قال : يهم بمعصية - فيقال له : اتق الله فيجل قلبه .
وقال الثوري أيضا : عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن شهر بن حوشب ، عن أم الدرداء في قوله : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) قالت : الوجل في القلب إحراق السعفة ، أما تجد له قشعريرة ؟ قال : بلى . قالت لي : إذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك ، فإن الدعاء يذهب ذلك .
وقوله : ( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا [ وعلى ربهم يتوكلون ] ) كقوله : ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ) [ التوبة : 124 ] .
وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب ، كما هو مذهب جمهور الأمة ، بل قد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من الأئمة ، كالشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبي عبيد ، كما بينا ذلك مستقصى في أول الشرح البخاري ، ولله الحمد والمنة .
( وعلى ربهم يتوكلون ) أي : لا يرجون سواه ، ولا يقصدون إلا إياه ، ولا يلوذون إلا بجنابه ، ولا يطلبون الحوائج إلا منه ، ولا يرغبون إلا إليه ، ويعلمون أنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له ، ولا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ؛ ولهذا قال سعيد بن جبير : التوكل على الله جماع الإيمان .
تفسير الطبري :
التفسير الميسّر:
تفسير السعدي
ومن نقصت طاعته للّه ورسوله، فذلك لنقص إيمانه،ولما كان الإيمان قسمين: إيمانا كاملا يترتب عليه المدح والثناء، والفوز التام، وإيمانا دون ذلك ذكر الإيمان الكامل فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الألف واللام للاستغراق لشرائع الإيمان. الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي: خافت ورهبت، فأوجبت لهم خشية اللّه تعالى الانكفاف عن المحارم، فإن خوف اللّه تعالى أكبر علاماته أن يحجز صاحبه عن الذنوب. وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ووجه ذلك أنهم يلقون له السمع ويحضرون قلوبهم لتدبره فعند ذلك يزيد إيمانهم،.لأن التدبر من أعمال القلوب، ولأنه لا بد أن يبين لهم معنى كانوا يجهلونه، أو يتذكرون ما كانوا نسوه،أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير، واشتياقا إلى كرامة ربهم،أو وجلا من العقوبات، وازدجارا عن المعاصي، وكل هذا مما يزداد به الإيمان. وَعَلَى رَبِّهِمْ وحده لا شريك له يَتَوَكَّلُونَ أي: يعتمدون في قلوبهم على ربهم في جلب مصالحهم ودفع مضارهم الدينية والدنيوية، ويثقون بأن اللّه تعالى سيفعل ذلك. والتوكل هو الحامل للأعمال كلها، فلا توجد ولا تكمل إلا به.
تفسير البغوي
إنما المؤمنون ) يقول ليس المؤمن الذي يخالف الله ورسوله ، إنما المؤمنون الصادقون في إيمانهم ، ( الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) خافت وفرقت قلوبهم ، وقيل : إذا خوفوا بالله انقادوا خوفا من عقابه . ( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ) تصديقا ويقينا . وقال عمير بن حبيب وكانت له صحبة : إن للإيمان زيادة ونقصانا ، قيل : فما زيادته ؟ قال : إذا ذكرنا الله - عز وجل - وحمدناه فذلك زيادته ، وإذا سهونا وغفلنا فذلك نقصانه ، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي : إن للإيمان فرائض وشرائط وشرائع وحدودا وسننا فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان . ( وعلى ربهم يتوكلون ) أي : يفوضون إليه أمورهم ويثقون به ولا يرجون غيره ولا يخافون سواه .
الإعراب:
(إِنَّمَا) كافة ومكفوفة.
(الْمُؤْمِنُونَ) مبتدأ مرفوع.
(الَّذِينَ) اسم موصول في محل رفع خبر والجملة مستأنفة.
(إِذا) ظرف يتضمن معنى الشرط.
(ذُكِرَ اللَّهُ) فعل ماض مبني للمجهول ولفظ الجلالة نائب فاعله والجملة في محل جر بالإضافة.
(وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) فعل ماض وفاعل والجملة لا محل لها جواب شرط غير جازم.
(تُلِيَتْ) فعل ماض مبني للمجهول تعلق به الجار والمجرور (عَلَيْهِمْ) (آياتُهُ) نائب فاعل والجملة معطوفة.
(زادَتْهُمْ) فعل ماض ومفعوله (إِيماناً) تمييز.
(وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) مضارع تعلق به الجار والمجرور قبله والواو فاعله والجملة معطوفة.