الفتوحات المكية - طبعة بولاق الثالثة (القاهرة / الميمنية) |
||
| الباب: | فى معرفة مقام الأدب وأسراره | |
|
ولما أسلم صاحب النظر وآمن ورأى من مقامه جميع ما رآه التابع في معراجه مشاهدة عين سأل أن يرى مقام المجرمين وهم المستحقون تلك الدار التي دخلوها بحكم الاستحقاق وعلموا إن العلم أشرف حلة وأن الجهل أقبح حلية وأن جهنم ليست بدار لشيء من الخير كما إن الجنة ليست بدار لشيء من الشر ورأى الايمان قد قام بقلب من لا علم له بما ينبغي لجلال الله ورأى العلم بجلال الله وما ينبغي له قد قام بمن ليس عنده شيء من الايمان وهذا العالم بعدم الايمان قد استحق دار الشقاء «و إن الجاهل» المؤمن قد استحق بالإيمان دار السعادة والدرجات في مقابلة الدركات فسلب هذا العالم المستحق دار الشقاء علمه حتى كأنه ما علمه أو لم يعلم شيئا فيتعذب بجهله أشد منه من عذابه بحسه وهو أشده عليه فخلع علمه على هذا الجاهل المؤمن الذي دخل الجنة بإيمانه فنال المؤمن بذلك العلم الذي خلع عن هذا الذي استحق الإقامة بدار الشقاء درجة ما يطلبه ذلك العلم فيتنعم به نفسا وجسما وفي الكثيب عند الرؤية ويعطي ذلك الكافر جهل هذا المؤمن الجاهل فينال بذلك الجهل درك ذلك من النار وتلك أشد حسرة تمر عليه فإنه يتذكر ما كان عليه من العلم ولا يعلم ذلك الآن ويعلم أنه سلبه ويكشف الله عن بصره حتى يرى مرتبة العلم الذي كان عليه في الجنان ويرى حلة علمه على غيره ممن لم يتعب في تحصيله ويطلب شيئا منه في نفسه فلا يقدر عليه وينظر هذا المؤمن ويطلع على سواء الجحيم فيرى شر جهله على ذلك العالم الذي ليس بمؤمن فيزيد نعيما وفرحا فما أعظمها من حسرة واتفق لي في هذه المسألة عجبا وذلك أن بعض علماء الفلاسفة سمع مني هذه المقالة فربما أحالها في نفسه أو استخف عقلي في ذلك فاطلعه الله بكشف لم يشك فيه في نفسه بحيث أن تحقق الأمر على ما قلناه فدخل علي باكيا على نفسه وتفريطه وكانت لي معه صحبة فذكر لي الأمر وأناب واستدرك الفائت وآمن وقال لي ما رأيت أشد منها حسرة وتحقق قوله تعالى إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ من الْجاهِلِينَ وقوله فَلا تَكُونَنَّ من الْجاهِلِينَ فهذا قد جمع بين خطاب لطف ولين وعنف وشدة لأن الواحد شيخ فخاطبه باللطف والآخر شاب فخاطبه بالشدة نفعنا الله بالعلم وجعلنا من أهله ولا يجعلنا ممن يسعى بخيره في حق غيره ويشقى آمين بعزته انتهى الجزء الثامن ومائة (بسم الله الرحمن الرحيم) «الباب الثامن والستون ومائة في معرفة مقام الأدب وأسراره»إن الأديب هو الحكيم لأنه *** مجموع خير والمساب مجمع فإذا رأيت نعوته في خلقه *** كنها ففيك لكل نعت موضع لا ترعوي عنها فأنت من أهلها *** والحق يعطي ما يشاء ويمنع أدباء أهل الله خير كلهم *** فلذاك تبصرها تضر وتنفع مثل الإساءة يرى العليل صنيعهم *** حسنا وتكره نفسه ما يصنع اعلم أيدك الله أن الله يقول وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ فالأديب إمعة لما عنده من السعة فهو مع كل مقام بحسب ذلك المقام ومع كل حال بحسب ذلك الحال ومع كل خلق ومع كل غرض فالأديب هو الجامع لمكارم الأخلاق والعليم بسفسافها لا يتصف بها بل هو جامع لمراتب العلوم محمودها ومذمومها لأنه ما من شيء إلا والعلم به أولى من الجهل به عند كل عاقل [الأدب ينقسم إلى أربعة أقسام]فالأدب جماع الخير وهو ينقسم إلى أربعة أقسام في اصطلاح أهل الله «القسم الأول» أدب الشريعةوهو الأدب الإلهي الذي يتولى الله تعليمه بالوحي والإلهام به أدب نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم وبه أدبنا نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فهم المؤدبون المؤدبون قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إن الله أدبني فأحسن أدبي «و القسم الثاني» أدب الخدمةوهو ما اصطلحت عليه الملوك في خدمة خدمها وملك أهل الله هو الله فقد شرع لنا كيفية الأدب في خدمته وهو معاملتنا إياه فيما يختص به دون معاملة خلقه فهو خصوص في أدب الشريعة لأن حكم الشريعة يتعلق بما هو حق لله وبما هو حق للخلق «و القسم الثالث» أدب الحقوهو الأدب مع الحق في اتباعه عند من يظهر عنده ويحكم به فترجع إليه وتقبله ولا ترده ولا تحملك الأنفة إن كنت ذا كبر في السن أو المرتبة وظهر الحق عند من هو أصغر منك سنا أو قدرا أو ظهر الحق عند معتوه تأدبت معه وأخذته عنه واعترفت بفضله عليك فيه هذا هو الاتصاف وما رأيت من تحقق بهذا خلقا في عمري إلا سيد واحد يقال له أبو عبد الله ابن جبير لقيته بمدينة سبتة وقصر كتامة وهو جزء من آداب الشريعة فإن أدب الشريعة هو الأم لباقي الأقسام «و القسم الرابع» أدب الحقيقةوهو ترك الأدب بفنائك وردك ذلك كله إلى الله وسيأتي في الباب الذي يلي هذا الباب وهو في المقامات كالوهب في أصناف العطاء وهو أن يعطي لينعم لا لسبب آخر وكذا المأدبة الاجتماع على طعام ماله سبب إلا الدعوة إليه خاصة من غير تقييد من صفة وليمة أو ختان أو ضيافة أو عقيقة وغير ذلك وكذا جامع الخير لا لسبب بل لكون جامع ذلك له نفس فاضلة خيرة بالذات فذلك هو الأديب وللأدب حال ومقام وهذا باب معرفة مقامه فمقامه هو ما يثبت له دائما وليس ذلك إلا الأدب مع الحق فإنه له الدوام في الدنيا والآخرة وما فاز به إلا أهل الفتوة من الملامية لا غير سلكوا فيه كل مسلك واستخرجوا كنوزه وحصلوا فوائده كما قال الله تعالى إنه ما خلق السموات وهو كل عالم علوي والأرض وهو كل عالم سفلي السماء من عالم الصلاح والأرض من عالم الفساد ومنه اشتقت اسم الأرضة لما تفسده في الثياب والورق والخشب ويسمى أيضا السوس والعث وما بينهما إلا بالحق من العالم فهذا الحق المخلوق به هذا العالم هو الذي نتأدب معه فإنه سبب وجود أعيان العالم وبه يحكم الله يوم القيامة بين عباده وفي عباده وبه أنزل الشرائع فقال لرسوله داود يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الْهَوى وإن كان مخلوقا بالحق فإنه مما بين السماء والأرض أو هو عين الأرض فمقام الأدب العمل بالحق والوقوف عند الحق وإياك أن تتوهم من هذا القول إن الصدق هو الحق من حيث إنك تقول قال حقا إذا صدق في قوله وقال صدقا بل الحق حاكم على الصدق وعلى الكذب بالحسن والقبح فالحق في موطن يحمد الصدق وفي موطن يذمه وينهى عنه ويثني على الكذب الذي هو ضده ويحرض عليه ويوجب العمل به وفي موطن آخر يذم الكذب وينهى عنه ويحمد الصدق ويأمر به وهذا مقام الأدب الذي ينفع صاحبه في كل موطن فألزمه وتتبع مواضعه ودلائله في الشرائع وفي أفعال الرسول المتأسي بها لا غير لا ما اختص به فإنه ليس بأدب مع الحق «و أما مقام» أدب الخدمةفهو أن يعطي ذات المخدوم كان ما كان ما تستحقه من حيث عينها خاصة وهو أن تقف مع ما تطلبه بذاتها فتبادر إليه من قبل أن تأمرك به أو تساءلك فيه حتى لا يظهر عليها ذلة المسألة ولو كان أكبر منك وسالك في أمر فهو من حيث سؤاله إياك في ذلك الأمر أن تفعله إظهار حاجة إليك ولو عادت عليك منفعته ولكن مقام السؤال يقتضي ذلك فمقام أدب الخدمة الحضور دائما مع كل ذات مشهودة لك تنظر فيما تستحقه بما يعطيه الزمان أو المكان أو الحال فتقوم لها بذلك من غير سؤال ولا تنبه من أحد سوى حضورك فهذا مقام أدب الخدمة «و أما مقام» أدب الشريعةفهو أن تقوم بأمرها خاصة لا بما تعطيك ذاتها إلا إن أمرتك بذلك فيكون قيامك بما تعطيك ذاتها من حيث أمرها لا غير قال تعالى وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وقال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وكل خدمة عن أمر فمن أدب الشريعة لا من أدب الخدمة «و أما مقام» أدب الحقيقةفإنا نذكره إن شاء الله ومن أدب الشريعة أخذك لأحكامها المشروعة والوقوف عند رسومها وحدودها واتصافك بها لمجرد الخدمة والاشتغال لا لتحلية النفس بالعلم بها دون العمل ومن آداب الخدمة أن لا يشغلك ولا يبعثك عليها ما تنتجه لك من المخدوم من القبول وملاحظات التأميل فإن شغلك ذلك فما خدمت سوى غرضك ونفسك ومن آداب الحق أن لا يتعدى علمك في الأشياء علمه فيها وهو الموافقة وإن أعطاك علمك خلاف ذلك ولا سيما فيما أضافه الحق إلى الخلق من الأعمال فأضفها أنت إلى من أضافها الله واترك علمك لعلمه فإنه العليم وأنت العالم وهو الصادق فيما يخبر فما أضاف أمرا إلى من أضافه إلا وينبغي لذلك المضاف إليه تلك الإضافة فلا ترجح علمك على علمه من حيث قيام الدليل لك على أنه لا فاعل إلا الله فليس هذا من الأدب فصاحب الموافقة له كل تجل وشهود فاعلم ذلك |


