الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


369. الموقف التاسع والستون بعد الثلاثمائة

سأل بعض الأخوان عن قول الإمام الغزالي رضي الله عنه : «ليس في الإمكان أبدع مما كان»(1). وطلب الجواب عنه بعبارة واضحة، فقلت: الحمد لله وحده، الجواب - والله ملهم للصواب-: قال تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام ومصدقاً له: ﴿{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[طه:20/50].

فقول حجة الإسلام رضي الله عنه ليس في الإمكان ..الخ. مقالت إشارة إلى معنى هذه الآية المشيرة إلى سرّ القدر المتحكم في المخلوقات، الذي هو العلة، التي لا يقال فيها لم في الاختلاف العالم في الذوات والصفات والنعوت والاستعدادات. أخبر تعالى أنه أعطى كل شيء من العالم المخلوق في مرتبة وجوده الخارجي خلقه، أي استعداده الكلي الذاتي الغير مجعول ولا مخلوق، الذي هو عليه في مرتبة ثبوته وعدمه. فإن كلّ ممكن له استعداد خاص، لا يشبه استعداد ممكن غيره. وبالاستعدادات كنت الحجة البالغة لله تعالى على من أشقاه وابتلاه وأفقره ونحو هذا. فإن استعداده طالب لذلك ولو أعطاه غيره على سبيل الفرض لرده وما قبله لاستعداده لضده. فإن الاستعدادت طالبة لإيجاد من هي مستعدّة له، سواء كان ملائماً في الخارج أو غير ملائم. ول يطلب استعداد أي استعداد كان، إلا ما هو كمال في حقه وبالنسبة إليه، فإنه ترتيب حكيم عليم. والحكيم هو الذي يضع كل شيء موضعه اللائق به بحيث لا يكون أحكم ول أصلح ولا أبدع ولا أكمل منه. ولو فرضنا أن عينا من أعيان العالم طلب استعداده من الحق تعالى شيئاً أعلا مما هو عليه أحكم وأصلح ولم يعطه ذلك وادخره عنه، وهو ممكن، فلا يخلو إما أن يكون الحق تعالى منعه ذلك بخلا، تعالى الحق عن البخل، فإن البخل يناقض الجود الثابت له تعالى عقلاً وشرعاً. وإما أن يكون منعه ذلك عجزاً، وقد فرضناه ممكنا، فهو يناقض الاقتدار الثابت له تعالى عقلاً وشرعاً على كل ممكن. فثبت أن الحق تعالى جواد قادر أعطى كل شيء من العالم خلقه واستعداده ومن نقصه شيئاً مما طلبه استعداده، وما بقى في الإمكان شيء يكون ممكنا في حق عين من أعيان العالم أعلى وأحكم وأبدع مما هو عليه، وادخره عنه. وحينئذ صحّ قول حجة الإسلام: ليس في الإمكان..الخ. فحجة الإسلام بصدد الكلام على العالم الموجود، وأن الذي رتبه هذ الترتيب الذي هو عليه حكيم فلا يمكن أن يكون في الإمكان أحكم وأصلح وأبدع من هذ الترتيب الذي هو عليه، فإنه ترتيب الحكيم. فلا يمكن أن يكون في الإمكان أحكم وأبدع من هذا الترتيب المشاهد في أوضاع العالم وصفاته وأحواله. وأدّخره الحق تعالى مع طلب الاستعدادت أن يخلق لها ما هي مستعدة له، ومنعها إياه، والمنع في حق الحق محال. فإن منع المستعدّ شر، والشر ليس إليه تعالى، وإنما يكون المنع من جهة القابل حيث أنه عدم الاستعداد للقبول. فالإمكان المنفى إنما هو عن كون العالم وأشخاصه قابلة أن تكون على ترتيب وصفات أعلا وأبدع ممّا هي عليه، وهذا محال. فإن الاستعدادات حاكمة فلا يقبل مستعد غير ما هو مستعد له، يدل على ذلك قوله: (لو أن الله عز وجلّ خلق الخلائق كلهم على عقل أعقلهم، وعلم أعلمهم، وخلق لهم من العلم م تحتمله نفوسهم، وأفاض عليهم من الحكمة مالا منتهى لوصفه، ثم زاد مثل جميعهم علماً وحكمة وعقلاً، ثم كشف لهم عواقب الأمور، وأطلعهم على أسرار الملكوت، وعرفهم دقائق اللطف وخفايا العقوبات، حتى اطلعوا على الخير والشر والنفع والضر ثم أمرهم أن يدبروا الملك والملكوت بما أعطوا من العلوم والحكم لما اقتضى تدبيرهم جميعاً من التعاون والتظاهر أن يزاد فيمادبر الله الخلق به في الدنيا والآخرة جناح بعوضة، ول أن ينقص من جناح بعوضة..الخ. فلا إيجاب ولا غيره مما توهم في كلام حجة الإسلام من اعتقادات الفلاسفة والمعتزلة، ولكنه رضي الله عنه مزج كلام أهل الحقائق بكلام أهل النظر.

وجه آخر: اعلم أن الآثار الكونية دلت على المعاني الإلهية والحقائق الربانية. والمعاني الإلهية دلت على وجودات الإله المعبود، فما في العالم حقيقة كونية كلية أو جزئية إلا ولها حقيقة إلهية كلية أو جزئية تقابلها، هي مستنده ومحتدها، والحقيقة الكونية هي تعينها ومظهرها. فالنسخة الكونية مقابلة للنسخة الإلهية، و لايلزم من تقابل النسختين واستناد أحدهما إلى الأخرى المساواة في الحقيقة والنسبة، ومن علم هذا علم صحة قول حجة الإسلام الغزالي رضي الله عنه «ليس في الإمكان أبدع ولا أكل من هذا العالم» إذ لو كان وادخره لكان بخلا يناقض الجود وعجزاً يناقض القدرة مع ما تقدم وتأخر من كلامه في باب التوكل من كتاب إحياء العلوم. يريد رضي الله عنه أنه لما كان العالم مظاهر أسماءه تعالى الكلية والجزئية لأنها الطالبة لإيجاد العالم وإظهاره من العدم الإمكاني مع طلب الحقائق الإمكانية للإيجاد والظهور من التعين العلمي إلى التعين الخارجي، مع عوارض التعين الخارجي ولوازم في الأحوال والنعوت التي لا تنحصر ولا تدخل تحت ضابط ولا قياس. وقد أجاب الحق تعالى طلب الجميع، فلم يبق حقيقة كلية إلهية تطلب العالم إلا وقد ظهرت بحقيقة كلية كونية، وجزئياتها وأشخاصها لا تتناهى. فلم يبق شيء في الإمكان من حيث الأجناس والأنواع إلا وقد كان، فإنه لو بقى في الإمكان شيء بعد هذا العالم جنساً أو نوعاً وادّخره تعالى لكان هذا الادخار بخلا عن الممكنات الطالبة باستعداده للإيجاد وعن الأسماء الإلهية الطالبة لظهورها بظهور الممكنات، التي هي آثارها. وإن لم يكن بخلاً تعين أن يكون عجزاً، فإن عدم اسعاف الطالب بمطلوبه لا يكون إل بخلاًًً أو عجزاً. وكلاهما محال على الجواد المطلق القادر على كل شيء فهو الذي أعطى كل شيء خلقه واستعداده كما ينبغي وعلى الوجه الذي ينبغي وبالقدر الذي ينبغي فعطاء الحق تعالى تابع للطلب الاستعدادي الكلي من الأسماء ومن الأعيان الثابتة التي هي صور الأسماء وللطلب الحالي الاضطراري، لا القولي، إلا أن وافق الاستعدادي أوالحالي. فلا يجب شيء على الحق تعالى ولا يتصور في حقه تعالى منع مستعد لشيء مما هو طالبه باستعداده الكلي. فإن من أسمائه تعالى المعطي، ولا يكون مسمى بهذا الاسم في حال دون حال، ولا في وقت دون وقت. وما سمى بالمانع إلا من حيث عدم قبول الطالب بلسان ماهو غير مستعد لقبوله. فما أنكر قول حجة الإسلام واستعظمه واستغربها منه إلا من كان متكلماً قحاً محجوباً عن الرقائق والدقائق، ما شمّ رائحة من علم القضاء والقدر، و لاعرف كيفية نشأ العالم، ولا أسباب صدوره، فتوهم أن في هذه المقالة تعجيزً للقدرة وتناهياً للمقدورات وإيجاباً على الحق تعالى فعل الأبدع، ومشيا على قواعد المعتزلة. وهيهات هيهات، هذا جواب من محل كلام حجة الإسلام على نفي الإمكان عن إيجاد عالم آخر أو عوالم، وإنما مراد حجة الإسلام التنبيه على أن سبب هذا الاختلاف الواقع في العالم بين أجناسه وأنواعه، وبين أشخاص أنواع الواحد هوالقضاء الأزلي، ونسبة القضاء الأزلي هو الحكمة. ومن أسمائه تعالى الحكيم، فهي المخصصة للاستعدادات والحكمة، متقدمة بالمرتبة على العلم الأزلي. فم ظهر في هذه النسخة الشهادية إلاّ ما طلبته الاستعدادات الأزلية غير المجعولة، فكل ماظهر في العالم فهو العدل الحق ولا يظلم ربك أحداً.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!