فاعلم إن النور مبطون في الظلمة فلو لا النور ما كانت الظلمة و لم يقل نسلخ منه النور إذ لو أخذ منه النور لانعدم وجود الظلام إن كان أخذ عدم و إن كان أخذ انتقال تبعه حيث ينتقل إذ هو عين ذاته و النهار من بعض الأنوار المتولدة عن شروق الشمس فلو لا إن للظلمة نورا ذاتيا لها ما صح أن تكون ظرفا للنهار و لا صح أن تدرك و هي مدركة و لا يدرك الشيء إن لم يكن فيه نور يدرك به من ذاته و هو عين وجوده و استعداده بقبول إدراك الأبصار بما فيها من الأنوار له و اختص الإدراك بالعين عادة و إنما الإدراك في نفسه إنما هو لكل شيء فكل شيء يدرك بنفسه و بكل شيء أ لا ترى الرسول صلى اللّٰه عليه و سلم كيف كان يدرك من خلف ظهره كما كان يدرك من أمامه و لم يحجبه كثافة عظم الرأس و عروقه و عظامه و عصبه و مخه غير إن اللّٰه أعطى الظلمة و الكثافة الأمانة فهي تستر ما تحوي عليه و لهذا لا تظهر ما فيها فإذا ظهر فيكون خرق عادة لقوة إلهية أعطاها اللّٰه بعض الأشخاص و إذا أمر من أودع الأمانة من أودعها أن يظهرها لمن شاءه المودع و هو الحق تعالى فله أن يؤديها إليه فلا أمين مثل الأجسام المظلمة على ما تنطوي عليه من الأنوار و قد نبه اللّٰه على أمانتهم بذكر بعضهم في قوله ﴿وَ هٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ [التين:3] فسماه أمينا و هو أرض ذو جدران و أسوار و تراب و طين و لبن فوصفه بالأمانة و أقسم به كما أقسم بغيره تعظيما لمخلوقات اللّٰه و تعليما لنا أن نعظم خالقها و نعظمها بتعظيم اللّٰه إياها لا من جهة القسم بها فإنه لا يجوز لنا أن نقسم بها و من أقسم بغير اللّٰه كان مخالفا أمر اللّٰه و هي مسألة فيها خلاف بين علماء الرسوم مشهور أعني القسم بغير اللّٰه فكلما اعوجت الأجسام كانت أقرب إلى الأصل الذي هو الاستدارة فإن أول شكل قبل الجسم الأول الاستدارة فكان فلكا و لما كان ما تحته عنه كان مثله و ما بعد عنه كان قريبا منه و لو لم تكن الطبيعة نورا في أصلها لما وجدت بين النفس الكلية و بين الهيولى الكل و الهيولى الذي هو الهباء أول ما ظهر الظلام بوجودها فهو جوهر مظلم فيه ظهرت الأجسام الشفافة و غيرها فكل ظلام في العالم من جوهر الهباء الذي هو الهيولى و بما هي في أصلها من النور قبلت جميع الصور النورية للمناسبة فانتفت ظلمتها بنور صورها فإن الصورة أظهرتها فنسبت إلى الطبع الظلمة في اصطلاح العقلاء و عندنا ليست الظلمة عبارة عن شيء سوى الغيب إذ الغيب لا يدرك بالحس و لا يدرك به و الظلمة تدرك و لا يدرك بها فلو لا إن الظلمة نور ما صح أن تدرك و لو كانت غيبا ما صح أن تشهد فالغيب لا يعلمه إلا هو و هذه كلها مفاتيح الغيب و لكن لا يعلم كونها مفاتح إلا اللّٰه يقول تعالى ﴿وَ عِنْدَهُ مَفٰاتِحُ الْغَيْبِ لاٰ يَعْلَمُهٰا إِلاّٰ هُوَ﴾ [الأنعام:59] و إن كانت موجودة بيننا لكن لا نعلم أنها مفاتح للغيب و إذا علمنا بالأخبار أنها مفاتح لا نعلم الغيب حتى نفتحه بها فهذا بمنزلة من وجد مفتاح بيت و لا يعرف البيت الذي يفتحه به
هذه نسخة نصية حديثة موزعة بشكل تقريبي وفق ترتيب صفحات مخطوطة قونية