الفتوحات المكية

الحضرات الإلهية والأسماء ءالحسنى

وهو الباب 558 من الفتوحات المكية

«حضرة البصر»

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[28] - «حضرة البصر»

إن البصير الذي يراكا *** علما وعينا إذا تراه‏

فكن به لا تكن بكون *** ولا تشاهد فيه سواه‏

فإنه قوله مجيبا *** بنا يرانا به نراه‏

[من الحضرة البصر الرؤية والمشاهدة]

يدعى صاحبها عبد البصير ومن هذه الحضرة الرؤية والمشاهدة فلا بد من مبصر ومشهود ومرئي قال الله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وقال أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الله يَرى‏ وقال وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر وكما ترون الشمس بالظهيرة ليس دونها سحاب‏

يريد بذلك ارتفاع الشك في أنه هو المرئي تعالى لا غيره فيلزم عبد البصير الحياء من الله في جميع حركاته وإنما لزمه الحياء لوجود التكليف فعبد البصير لا يبرح ميزان الشرع من يده يزن به الحركات قبل وقوعها فإن كانت مرضية عند الله ودخلت في ميزان الرضي اتصف بها هذا الشخص وإن لم تدخل له في ميزان الرضي وحكم عليها الميزان بأنها حركة بعد عن محل السعادة وإنها سوء أدب مع الله حمى نفسه عبد البصير أن يظهر منه هذه الحركة فعبد البصير يخفض الميزان ويرفعه صفة حق فإن الله ما وضع الميزان إلا ليوزن به وهو مما بين السماء والأرض فما خلقه باطلا

ولا عبثا ولا يستعمله إلا عبد السميع وعبد البصير بل له دخول في كل اسم إلهي لكل عبد مضاف إلى ذلك الاسم مثل عبد الرءوف فإنه يرأف بعباد الله وجاء الميزان في إقامة الحدود فأزال حكم الرأفة من المؤمن فإن رأف في إقامة الحد فليس بمؤمن ولا استعمل الميزان وكان من الذين يخسرون الميزان فيتوجه عليه بهذه الرأفة اللؤم حيث عدل بها عن ميزانها فإن الله يقول ولا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ في دِينِ الله وهو الرءوف تعالى ومع علمنا بأنه الرءوف شرع الحدود وأمر بإقامتها وعذب قوما بأنواع العذاب الأدنى والأكبر فعلمنا إن للرأفة موطنا لا نتعداه وأن الله يحكم بها حيث يكون وزنها فإن الله ينزل كل شي‏ء منزلته ولا يتعدى به حقيقته كما هو في نفسه فإن الذي يتعدى حدود الله هو المتعدي لا الحدود فإن الحدود لا تتعدى محدودها فيتجاوزها هذا المخذول ويقف عندها العبد المعتنى به المنصور على عدوه فعبد البصير إما أن يعبد الله كأنه يراه وهذه عبادة المشبهة وإما أن يعبد الله لعلمه بأن الله يراه فهذه عبادة المنزهة وإما أن يعبد الله بالله فهذه عبادة العلماء بالله فيقولون بالتنزيه ويشهدون التشبيه لا يؤمنون به فإنه ليس عندهم ذلك خبرا وإنما هو عيان والايمان بابه الخبر فالمحجوب يؤمن بقول المخبر وصاحب الشهود يرى صدق المحبر فكثير ما بين يرى ويؤمن فإن صاحب الرؤية لا يرجع بالنسخ إلا رجوع الناسخ وصاحب الايمان يرجع بالنسخ ويعتقد في المرجوع عنه أنه كفر بعد الرجوع عنه وإن كان مؤمنا به ولكن يؤمن به إنه كان لا يؤمن به إنه كائن لأنه منسوخ فإذا علم الله من العبد أنه يعلم أنه يراه يمهله فيما يجب بفعله المؤاخذة لأنه علم أنه يعلم أنه يراه فيتربص به ليرجع لأنه تحت سلطان علمه وإن انحجب عن استعماله في الوقت لجريان القدر عليه بالمقدور الذي لا كينونة له إلا فيه وإن الله يستحيي من عبده فيما لا يستحيي العبد فيه وذلك إذا علم من العبد أنه يعلم ممن الله أن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فيقول الحق ما أعلمته بذلك ورزقته الايمان به إن كان من المؤمنين أو أشهدته ذلك إن كان من أهل الشهود إلا ليكون له ذلك مستندا يستند إليه في إقامة الحجة فكون العبد قد أشهد ذلك أو آمن به ولم يحتج به فما منعه من ذلك إلا الحياء فيما لم يستحيي فيه فإن الله يستحيي منه أن يؤاخذه بعلمه الذي ما استحيى منه فيه‏

[إن للعبد عينان‏]

واعلم أن هذه الحضرة أعطت أن يكون للعبد عينان وللحق أعين فقيل في المخلوق أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وقال تعالى عن نفسه تَجْرِي بِأَعْيُنِنا فمن عينيه كان ذا بصر وبصيرة ومن أعينه كانت أعين الخلق عينه فهم لا يبصرون إلا به وإن لم يعلموا ذلك والعالمون الذين يعلمون ذلك يعطيهم الأدب أن يغضوا أبصارهم فيتصفوا بالنقص فإن الغض نقص من الإدراك وقوله أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ الله يَرى‏ إرسال مطلق في الرؤية لا غض فيه فإن لم يغضوا مع علمهم فيعلم عند ذلك أنهم مع شهود المقدور الذي لا بد من كونه فهم يرونه كما يراه الله من حيث وقوعه لا من حيث الحكم عليه بأنه كذا هكذا يراه العلماء بالله فيأتون به على بصيرة وبينة في وقته وعلى صورته ويرتفع عنهم الحكم فيه فإنه من الشهود الأخروي الذي فوق الميزان ولذلك لا يقدح فيهم لأنه خارج عن الوزن في هذا الموطن وهو قوله في حق رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ولِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ فهو سؤال عن العلة لا سؤال توبيخ لأن العفو تقدمه وقوله حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ إنما هو استفهام مثل قوله أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ كأنه يقول أ فعلت ذلك حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فهو عند ذلك إما أن يقول نعم أو لا فإن العفو ولا سيما إذا تقدم والتوبيخ لا يجتمعان لأنه من وبخ فما عفا مطلقا فإن التوبيخ مؤاخذة وهو قد عفا ولما كان هذا اللفظ قد يفهم منه في اللسان التوبيخ لهذا جاء بالعفو ابتداء ليتنبه العالم بالله أنه ما أراد التوبيخ الذي يظنه من لا علم له بالحقائق وقال في هذه المرتبة في حق المؤمن العالم‏

اعمل ما شئت فقد غفرت لك‏

أي أزلت عنك خطاب التحجير يا محمد فاسترسل مطلقا فإن الله لا يبيح الفحشاء وهي محكوم عليها فحشاء تلك الأعمال فزال الحكم وبقي عين العمل فما هو ذنب يستر عن عقوبته وإنما الستر الواقع إنما هو بين هذا العمل وبين الحكم عليه بأنه محجور خاصة هذا معنى قد غفرت لك لا ما يفهمه من لا علم له فيمشي هذا الشخص في الدنيا ولا خطيئة عليه بل قد عجل الله له جنته في الدنيا فهو في حياته الدنيا كالمقتول في سبيل الله‏

نسمته تعلق من ثمر الجنة كذلك هذا الشخص وإن أقيمت عليه الحدود فلجهل الحاكم هذا المقام الذي هو فيه فإقامة الحدود على من هذا مقامه ما هي حدود وإنما هي من جملة الابتلاءات التي يبتلي الله بها عبده في هذه الدار الدنيا كالأمراض وما لا يشتهي أن تصيبه في عرضه وماله وبدنه فيصيبه وهو مأجور في ذلك لأنه ما ثم ذنب فيكفر وإنما هو تضعيف أجور فما هي حدود في نفس الأمر وإن كانت عند الحاكم حدود أو تظهر رائحة من هذا في علماء الرسوم المجتهدين فإن الحاكم إذا كان شافعيا وجي‏ء إليه بحنفي قد شرب النبيذ الذي يقول بأنه حلال فإن الحاكم من حيث ما هو حاكم وحكم بالتحريم في النبيذ يقيم عليه الحد ومن حيث إن ذلك الشارب حنفي وقد شرب ما هو حلال له شربه في علمه لا تسقط عدالته فلم يؤثر في عدالته وأما أنا لو كنت حاكما ما حددت حنفيا على شرب النبيذ ما لم يسكر فإن سكر حددته لكونه سكران من النبيذ فالحنفي مأجور ما عليه إثم في شربه النبيذ وفي ضرب الحاكم له وما هو في حقه إقامة حد عليه وإنما هو أمر ابتلاه الله به على يد هذا الحاكم الذي هو الشافعي كالذي غصب ماله غير إن الحاكم هنا أيضا غير مأثوم لأنه فعل ما أوجبه عليه دليله أن يفعله فكلاهما غير مأثوم عند الله وهذا عين ما ذكرناه في إقامة الحدود على الذين أبيح لهم فعل ما أقيم عليه فيه الحد وهو حد في نفس الأمر بالنظر إلى من أقامه فاعلم ذلك وهذه الحضرة واسعة الميدان يتسع فيها المجال فاكتفينا بهذا القدر من التنبيه والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وهو حسبي عز وجل ونِعْمَ الْوَكِيلُ‏


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!