الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


189. الموقف التاسع والثمانون بعد المائة

قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ﴾[النحل: 16/ 127].

أمر أوّلاً، تعريف وتعليم ثانياً، والخطاب له (صلى الله عليه وسلم) والمراد نحن أمره تعالى بالصبر، ثم أخبره بصيغة الحصر، وأعلمه أن الصبر المحمود المرضي المطلوب من العبد هو الذي يكون بالله فتعمل في تحصيله، وتقرّب إلي بالنوافل حتى أحبّك فإني إذا أحببتك صرت بي تسمع ، وبي تبصر، وبي تفعل وهكذا ، في جميع قواك وأفعالك لا بنفسك، وبين الصبر بالله والصبر بالنفسّ فرقان، فمن كان صبره بالله فهو، وإن تألّم ظاهراً، واشتكت أعضاؤه وجوارحه، ودمعت عيناه؛ فمحل ذلك منه النفس الحيوانية، وهو في باطنه ناعم البال قرير العين، مستنير الباطن لأنه واثق بحسن تدبير الله تعالى له، متحقق بأنَّ ما ورد عليه وأصابه لم يكن ليخطئه، وأنه لابدَّ من نزوله به، لأنه من مقتضى استعداده، وأن استعداده هو الطالب له بلسان حاله، موقن بأنه تعالى حكيم لا يفعل إلاَّ ما ينبغي، كما ينبغي، وبالقدر الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، بل يكون الحق تعالى هو الحامل لما أنزله عمّن يكون صبره به تعالى ـ. وأمَّا من كان صبره بنفسه فإنه وإن تجلد وحبس نفسه ظاهراً لما نزل به وأصابه، فهو كسيف البال، مظلم الأرجاء، متألم الباطن، متهم لربه فيم أنزله به، مجوز لما ورد عليه ونزل به، أنه يمكن أن لا يكون، وهذا ليس هو الصبر المرضي المحمود المطلوب من العبد؛ بل هذا مقاومة للأمر الإلهي، وتشجيع على الله كما رُوِيَ أن علياً (عليه السلام) أن في مرضه، فقيل له: أتئن وأنت علي، فقال : أمَّ على الله فلا أتشجع، والآلام الطبيعية المحسوسة ليس في وسع الإنسان رفعها، بخلاف الآلام النفسيّة، فإنَّ في وسعه رفعها، والصبر من المقامات، التي لا يفارقها العبد إلى الممات وهو عام على الخير والشرّ إذ الكل ابتلاء وفتنة وتمحيص، قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾[الأنبياء: 21/35].

وقوله: ﴿ِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾[الكهف: 18/ 7].

فالصبر على الخير هو الثبات فيه على الحد المشروع، وإشارة العقول، ومن هذا الصبر على المعارف الإلهية، والأسرار الربّانية، بعدم إذاعتها لغير أهلها، وقليل فاعله. وأما الصبر على الشرّ فهو المعروف عند الجمهور، ولا يتبادر إلى الأفهام عند ذكر الصبر مطلقاً غيره، وقد عدَّ الإمام محي الدين القول بدخول الصبر في النعم جهلاً. و من نظر في حدّ الصبر، وأنه حبس النفس على ما تكره، وذاق ما تكابده النفس من الشدة في كتم ما يهبه الله تعالى للعبد من العلوم والأسرار وكشف الحقائق حتى قال بعض العارفين: تسعة أعشار السرّ تقول لصاحبه بخ بخ ،  وفي بوحه هلاكه وحتفه، قال بدخول الصبر في النعم ولابدّ، وهذه أمور ذوقية. فكل واحد إنما يعبر عن ذوقه، ويحكى حاله، وهذه عادة القوم جميعهم رضوان الله عليهم فلهذا لا يخطئ ب عضهم بعضاً إلاَّ في النادر، والكلام على الصبر طويل الذيل.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!