The Meccan Revelations: al-Futuhat al-Makkiyya

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


190. الموقف التسعون بعد المائة

قال تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ﴾[المطففين: 83/ 22- 23].

إلى قوله: ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾[المطففين : 83/ 28].

موضوع الآية، بحسب ما يعطيه ظاهر اللفظ بحاله، وفيها إشارة إلى شيء آخر، فأقول: أخبر الله تعالى مبشرا ً ومؤكداً إخباره الصادق، ووعده الحق "بأنَّ واللام" حيث كان الأبرار بين الخوف والرجاء، أن الأبرار وهم أصحاب تجلّي الأفعال والصفات الذين ما فارقوا الكثرة بعد، ولا فازوا باستهلاك الكثرة في الوحدة، ولا تجلّت لهم الوحدة في الكثرة، لهم في الآخرة، كيت وكيت من الإكرام و الإنعام، وأنهم يسقون من رحيق... من للبيان، لأنَّ المشروبات أربعة: اللبن و العسل والماء والخمر، وهي علوم الوهب لمن يشربها، تتصّور العلوم بصور هذه المشروبات الأربعة، كما ورد في الصحيح أنه (صلى الله عليه وسلم) رأى أنه شرب لبناً وناول فضله عمر (رضي الله عنه) فقالوا: ما أوّلته يا رسول الله؟! قال: العلم. وشرب الخمر علم مخصوص بالأنبياء (عليه السلام) في الدار الدنيا، فلا يسقى غيرهم منه. ولك لما خصّهم الله تعالى به من القوة على حمله وإطاقتهم له، فلا يخلون بشيء من الأوامر والنواهي الشرعية الظاهرة، ولو سقي غيرهم من هذا العلم ما أطاق حمله، ول خّص بالأحكام الظاهرة، وفي الدار الآخرة يكون للأولياء السقي منه، :ما أخبر تعالى . وإن القوم رضوان الله عليهم يشبّهون ما يحصل لهم من التجلّيات المثمرة للعلوم والأسرار بالخمر، وذلك لمناسبات بينهما في بعض الأمور، وإلاَّ فالحقيقة مباينة للحقيقة كل المباينة، منها أنَّ العلم الحاصل بالتجلّي له سلطان وغلبة على علوم العقل والوهم، فلا يبقى لهما حكم مع العلم الحاصل بالتجلّي، فإنه بمثابة الضروريات، وغيره بمثابة النظريات. وغلبة الخمر المحسوس على العقل والوهم محسوسة، ومنها ما يحصل لصاحب التجلّي من اللذة والابتهاج والطرب، وهذا محسوس في الخمر المحسوس. ومنها أن لذة التجلّي تكون للقلوب والأوصال والعروق، وهكذا الخمر المحسوس... إلى غير ذلك من المناسبات، وهي كثيرة.

والأبرار إنما يسقون الرحيق من كؤوس الأسماء والصفات، بخلاف المقربين من عباد الله، فإنهم يشربون بلا كأس، بمعنى أنَّ لهم عين الذات، فلم تقيّدهم الأسماء والصفات، ولذا وصف تعالى سقي الأبرار بأنه مختوم، بمعنى محدود، لتقيّدهم وانحجابهم بالصفات والأسماء، ختامه مسك، مدح لهذا الشراب وأن ثفله مسك، وهو أطيب الطيب، كناية عن سموّ هذا الشراب وعظمة شأنه، مع أن آخر الشراب عادة بخلاف هذا. ثم أخبر تعالى عن المقرّبين، وهم السابقون السابقون، أهل تجلّي الذات الجامع المطلق فقال: ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾[المطففين : 83/ 28].

عيناً منصوب على المدح، ولذا فصل عما قبله، وتنوينه وتنكيره للتفخيم و التعظيم، بمعنى أنَّ المقربين يشربون العين الذات الجامع. أخبر أولاً عن الأبرار أنهم يسقون من بعض أسمائهم، ولذا قال: "يشرب بها" ولم يقل يشرب منها، لأن العين بمعنى الذات، هي الشاربة، من وجه محو آثار الغيرية، حكماً، وهي المشروبة من وجه بقاء التمييز عيناً. ولهذه النكتة جاءت الباء صلة، هذه الآية مثل قوله في سورة الإنسان: ﴿{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً *عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً﴾[الإنسان: 5- 6].

أخبر أيضاً أن شرب الأبرار من كأس، فشرابهم محصور محدود بالكأس، وهو إمَّا صورة حسية أو معنوية أو علمية، وأخبر أنَّ المقربين، وهم المعنيون بعباد الله، أي الذات المسمّاة بالله، الغني عن العالمين، وعن الأسماء والصفات، فالله في هذه الآية ومثلها علم على الذات، لا على المرتبة، فهم يشربون عيناً مطلقاً، ل باعتبار صورة أسمائية أو صفاتية، وذلك لإطلاقهم، فهم غير مقيّدين باسم أو صفة، بل لهم جميع الأسماء والصفات.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



Please note that some contents are translated from Arabic Semi-Automatically!