الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


186. الموقف السادس والثمانون بعد المائة

قال تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[آل عمران: 3/ 169].

الخطاب له (صلى الله عليه وسلم) والمقصود كل من بلغة الكلام القديم، و القرآن الكريم فإنه (صلى الله عليه وسلم) لم يكن بالذي يظن موت الشهداء في سبيل الله. نهى تعالى بهذه الآية عن ظن المقتولين في سبيل الله أنهم أموات. والمقتولون بسيوف الكفار، أعداء الدين، القتل الطبيعي الاضطراري، ومن المقتولين بصواعق المجاهدات والرياضات القتل الاختياري، من حيث أن كِليهما تحلل تركيبه وفسد نظامه الطبيعي عيناً وحساً في الأول، وحكماً وكشفاً في الثاني، وفي الآية دليل على التكليف بالمحال العقلي والعادي، والجمع بين الضدين. وقد جوّز الأشعري التكليف بالمحال، ومنعه المعتزلي، فإنَّ الحس والعقل لا يصح عندهما حياة المقتول في سبيل الله، ولا يدركان ذلك. وسمّاه تعالى مقتولاً تصديقاً لإدراك الحسن مع النهي عن حسبان موته إيماناً، فأنت منهي عن ظن موت المقتول في سبيل الله، وفي ضمن ذلك الأمر بالعمل بحياته إيماناً وكشفاً، كما أنك مأمور بالحكم بموته حساً وشرعاً، بإجراء أحكام الأموات عليه، كالميراث وتزويج الزوجة ونحو ذلك، ولذا قال في الآية الأخرى:

﴿وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾[البقرة: 2/ 154].

أي لا يخطر لكم شعور بحياتهم من جهة الحس والعقل، والشعور أوّل مراتب وصول الإدراك للنفس، ولكن يحصل لكم العلم بحياتهم من جهة الإيمان والكشف. وليس حياة المقتولين في سبيل الله حياة مجازيّة، كما قال بعض المفسرين، ولا أن المراد بحياتهم حياة أرواحهم، كما قال آخرون، إذ لا خصوصيّة لأرواحهم، فإنَّ الأرواح كلّها حيّة بالذات، فا لحياة ثابتة للأرواح، فإنَّ الذي نسمّيه في الواجب القديم حياة، هو الذي نسميه في الممكن الحادث روحاً، فالروح لا تموت، كما أن الذي نسميه في الحادث المكن نطقاً، هو الذي نسميه في القديم والواجب كلاماً ، وإنّما حياتهم الخاصة بهم، أنهم عند ربهم، أي حياتهم حياة ربهم لا حياة أخرى، كما هو الأمر عند غيرهم، يرزقون، فرزقهم، عنديّة ربهم، كما قال لهم: ﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾[العنكبوت: 29/ 17].

وقال لغيرهم: ﴿وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ﴾[الذاريات: 51/ 22].

فاعرف قدر من رزقه عند الله، ومن رزقه عند السماء، فلا تظن العنديّة هنا كالعندية المعروفة بل هي كما في قوله: ﴿قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ ﴾[الأحقاف 46/ 23].

وعلمه عينه، فهي كناية عن رفع التعينات الوهمية، و الحجب الخلقية، ونفي الغيرية، والحصول على العينية، وقد ورد في الخبر الصحيح: ((يغفر للشهيد عند أول قطرة من دمه)) .

بمعنى يستتر عنه الوجود المجازي والحياة الفانية، ويحصل على الوجود الحقيقي والحياة الباقية، وشهيد المعترك وشهيد المحبة في ذلك سواء، بخلاف غيرهم من الأموات، فإنهم وإن كانت أرواحهم حيّة، فليسوا عند ربّهم، لأنهم ما رفع عنهم حجاب الغيرية بعد، وإن رفعت عنهم بعض الحجب كوشفوا ببعض الغيبيات كالجنة والنار وم أشبه ذلك.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!