الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


159. الموقف التاسع والخمسون بعد المائة

ورد في الحديث: «أهل القرآن أهل الله». رواه الحاكم في المستدرك والنسائي، وابن ماجه، وفي بعض الروايات: «حملة القرآن أهل الله».

المراد بأهل القرآن أهل التوحيد الخاصّ، أصحاب تجريد التوحيد، ومقام التفريد. والأهل في اللغة الأقارب، وأهل الله هنا القريبون منه القرب المعنوي، والمقربون عنده، وهم أنصار الله الملّبون دعوته، المستجيبون إلى طاعته، وهو مقام النبوّة والولاية الكماليّة، والقائمون به هم الداعون إلى الله تعالى وتوحيده على طريق الصوفية، أهل الحقيقة والسلوك إلى الأحوال من الفناء والبقاء، والسكر والصحو ونحوها، وقطع عقبات النفوس وطيّ المقامات إلى الذروة العليا، والوصول إلى الوحدة الذاتية، وهو القرآن الكريم العظيم.

وهؤلاء الحملة حاملون أحوال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومقابلهم أهل الفرقان فهم أهل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الداعون إلى إقامة الشرائع الظاهرة، والسلوك على سبيل السنّة المطهرة، التي هي أقوال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأفعاله ظاهراً، والمشي على طريق أصحاب المعاملات، وهذه مرتبة الرسالة والقائمون بها المجتهدون مطلقاً أصحاب المذاهب والمرجّحون من أتباعهم. فإذا دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حضرة الذات دخل حملة القرآن أهل الله من ورائه، ودخل حملة السنة أهل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من ورائهم بالتبعية له (صلى الله عليه وسلم) حيث إنهم ما دخلوها بأنفسهم، وإذا دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حضرة الصفات دخل أهل الله من ورائه ودخل أهل الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالتبعية له (صلى الله عليه وسلم) لأنهم دخلوها بأنفسهم وذاقوها، فالفرق بينهم الذوق وعدمه. فأهل الله كانت لهم حضرة الذات والصفات ذوقاً، وأهل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كانت لهم حضرة الذات علماً لا ذوقاً، وحضرة الصفات ذوقاً، ولاشك أنَّ الذوق أشرف من العلم بغير ذوق، ولا يفهم من هذا أَنَّ من كان من حملة القرآن أهل الله، لا يكون من حملة الفرقان أهل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبالعكس، كلاّ وحاشا، فإن كلاًّ منهما من عند الله قال: ﴿نَزَّلَ الْفُرْقَانَ﴾[الفرقان: 25/1].كما قال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾[يوسف: 12/ 2].

فإن حامل القرآن إذا لم يكن من حملة الفرقان كان زنديقاً ملحداً مارقاً من الدين، فكيف يكون من أهل الله. وكذا حامل الفرقان إذا لم يكن من حملة القرآن كان فاسقاً فاجراً عاصياً، فلا فرق بينهما إلاَّ ما ذكرنا. وكان الأمر ه كذا في الصدر الأول، فلما طال الأمد وبعد زمن النبوّة و الخلافة، وانتشرت الأهواء صار الأمر أمرين، و الحزب الواحد حزبين، وضرب بينهما بسور، فتسمّى أهل القرآن بأهل الحقيقة و الصوفية والفقراء، وتسمّى أهل الفرقان بأهل الشريعة و العلماء والفقهاء، فتباينوا إلاَّ من رحم ربّك.


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!