الفتوحات المكية

المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف

للأمير عبد القادر الحسني الجزائري

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


158. الموقف الثامن و الخمسون بعد المائة

قال تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾ [النساء: 5/5].

هذه الآيات تأديب وتعريف وإرشاد للمرشدين، اعلم: أنَّ السفينة عند العامّة من يبذّر الأموال ويضيعها، ولا يحسن التصرف بها، فلا يضع الأموال مواضعه المستحقّة لها. وعند الخاصّة السفيه من يبذّر الأسرار الإلهية، والمعارف الربّانية، فيذيعها في غير مواضعها، ولا يستودعها أهلها فيضيعها، فإن من العلوم التوحيدية ما لا يجوز إفشاؤه مطلقاً، بل هو سر بين الله وبين عبده إلى الموت. والمال مالان: مال تميل إليه النفوس ويميلها، وهو المال المحسوس، مال العامة وبه قوام النفوس، فلا بقاء لها بدونه، ومال تميل إليه الأرواح ويميلها إليها، وهو المال المعنوي، مال الخاصة: ﴿ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً﴾[النساء: 4/5].

أي قواماً، وحياة لأرواحكم، إذ لا بقاء للروح، ولا حياة إلاَّ بالعلم الرّباني. أما السالك المبتدئ فلا أضر عليه ولا أسرع بالهلاك إليه من إفشاء م منحه الله تعالى ـ، من أسرار التوحيد مطلقاً، لأهله ولغير أهله إلاَّ لشيخه، وم زال المشايخ يحذرون من هذا كل الحذر، وذلك لأن السالك إذا فتح الله تعالى عليه بشيء من أسرار التوحيد، يرى الناس في عماية تائهين عن طريق الحق، فيشفق عليهم، ويرحمهم ويريد لهم الخير. فيحمله ذلك على كشف بعض أسرار الألوهية، وفي ذلك هلاكه وحتفه. فإذا كان السالك ممّن حنكته التجارب، وهذّبته العلوم، قال كما قال الأول:

قد كان ما كان ممالست أذكره

 

فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر

قال بعض الكاملين في قوله تعالى ـ: ﴿إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾[لقمان: 31/ 19].

هو المريد يتكلم بالحقائق قبل إدراكه. أو أَنَّ الكلام والنهي الوارد في الآية هو للمشايخ الذين لهم أتباع ومريدون، ربّما وضعوا الأسرار في غير مواضعها، وأذاعوها لغير أهلها، مع الإذن في إذاعتها لأهلها، إذ في إذاعة أسرار الربوبية لغير أهلها ضرران: ضرر راجع إلى المذيع، وضرر راجع إلى المذاع له. فالمذيع رب ّما رمي بالكفر والزندقة، وربما أفضى الأمر إلى قتله، وربّما وصل الشر إلى أصحابه ومن ينتسب إليه. و المذاع إليه ربّما افتتن أو حار أو فهم الأمر على غير وجهه، فضلّ، وكتب القوم مشحونة بذم هذا، والنهي عنه.

وقد شاهدنا في زماننا من المريدين من سمع بعض أسرار الألوهية وبعض الحقائق من مشايخهم، فصاروا يتكلّمون بها في المجالس العامة، وظهرت منهم أمور فظيعة من الجسارة، والقباحة والتهجم على الجناب الأعلى الإلهي، والتكلم بكلمات ما عرفوا له أصلاً، ولا ذوقوا لها طعماً، بل نظن والعلم عند الله أن مشايخهم إنما تلقّفوه من الكتب أو من غيرهم، وما ذوقوا لها طعماً، ولا عرفوا لها حقيقة، إذ لو عرفو حقيقتها لصانوها وشحّوا بها، كما شحّوا بالذهب وأمور الدنيا التي عرفوا حقيقتها. ورضي الله عن سيدنا العارف الكبير أحمد الرفاعي، حيث يقول:

ومستخبر عن سرّ ليلى رددته

بعمياء من ليلى بغير يقين

يقولون حدّثنا فأنت أمينه

 

وما أنا إنْ حدثتهم بأمين

 نعوذ بالله من الخيانة، فإن المنافق إذا اؤتمن خان، والمؤمن إذا اؤتمن أدّى. والقوم رضوان الله تعالى عليهم ما ألّفوا في الحقائق، وأذاعوا أسرار التوحيد، وكشفوا بعض أستار الربوبية، إلاَّ لأصحابهم ومن سلك طريقهم ممّن عرفو فيه الأهلية والثبات على الكتاب والسنّة، وما ألفوها للعامّة الهمج الرعاع، ول تكلّموا بها في المجالس العامّة كما هو الآن، يتكلم المشايخ الجهال بالكلمة من الحقيقة، يتبجّح بها فيتلقفها منه من هم أجهل، ويطيرونها كل مطار بغير علم، فضلو وأضلوا. فقصد المؤلفون في الحقائق نفع أهل طريقهم، لا من يتّضرر بها ويمرق من الدين مروق السهم من الرمية، قد سبق الفرص و الدم، فإنهم أهل نصيحة لعباد الله، يحبّون الخير لهم، قد علموا أن الاستعدادات متفاوتة وأن الأفهام مختلفة، كان مقصودهم النفع فعرض الضرر من غير قصد منهم.

﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا﴾[النساء: 4/5].أي ذوّقوهم من حلاوتها، واسقوهم من رحيقها.

﴿ وَاكْسُوهُمْ ﴾ من حللها المعنوية وأثوابها العليّة، ولباس التقوى ذلك خير، ليشتاقوا إلى الخروج من الحجر والتصرف والانتفاع بتلك الأموال من غير واسطة فيها، أي في المدّة التي هم فيها تحت نظركم، وفي حجوركم.

﴿وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾[النساء: 4/5 ]

وخاطبوهم بما هو قريب لأفهامهم، لا يحّير عقولهم، ولا يدخل عليهم شبهاً في عقائدهم، وكونوا ربّانيين، علّموا الناس بصغار العلم قبل كباره،  وذلك بالإشارات والتلويحات، وضرب الأمثال حتى تأنس عقولهم، ولا تكافحوهم بصريح الحقيقة فيهلكوا.

﴿وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى ﴾[النساء: 4/6]

اليتيم هو من عرف منه أستاذه بالفراسة النورانيّة الاستعداد و القابليّة وأنه يكون منه رجل فيما يأتي، من قولهم درّة يتيمة، أي ثمينة لها بال وقيمة. وكل من ادَّخر له أبوه العقل الكلّي كنزاً في استعداده، مخبأ تحت جدار جسمه فهو يتيم، أعني فاضل بالنسبة إلى من دونه، ولهذا أطلق الحق تعالى على رسوله (صلى الله عليه وسلم) اليتيم، لأنه أعظم مدّخر له، وكنزه أشرف كنز مدخر، أي اختبروهم مرة بعد مرة بالإشارات وقرائن الأحوال لتعرفوا ما ازدادوه من الأحوال الشريفة.

﴿حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ﴾[النساء: 4/6]

أي أوان أن يحصل من نكاحهم نتيجة وتوجد ثمرة، بمعنى خرج ماكان فيهم بالقوة والاستعداد، إلى الفعل والظهور، وصلحوا لأن ينكحوا وصاروا قابلين للبذر فيهم، فالشيخ له رتبة الفاعلية، و المريد له رتبة القابلية والمفعولية، فالشيخ رجل، و المريد زوجة.

﴿ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً ﴾[النساء: 4/6]

أبصرتم بفراستكم النورانية رشدهم وبلوغهم أشدّهم، وأنهم قدروا على استخراج كنزهم، بأن صاروا يقبلون الأسرار التوحيدية ويتلقونها بنفوس زكية طاهرة، وقلوب مطمئنة ثابتة على الأمر والنهي الشرعي، واتباع الكتاب والسنّة، لا بقلوب زائغة، ونفوس ضالّة، فتتبع ما تشابه منه أو تؤوله على غير المراد فتحرفه من بعد مواضعه.

﴿فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾[النساء: 4/6]

الأسرار التوحيدية، والمعارف الإلهية، ولا يجوز لكم حينئذٍ أن تمسكو عنهم شيئاً ينفعهم، ويكون زيادة في أحوالهم إلاَّ ما لا أذن فيه مطلقاً.

وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللّهِ حَسِيباً }النساء6


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب

البحث في كتاب الفتوحات المكية



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!