الفتوحات المكية

الحضرات الإلهية والأسماء ءالحسنى

وهو الباب 558 من الفتوحات المكية

«حضرة التصوير وهي للاسم المصور»

  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  


[14] - «حضرة التصوير وهي للاسم المصور»

إذا كان من تدري مصور ذاتنا *** عليه فما في العين إلا مماثل‏

وإن كان هذا مثل ما قلته لكم *** وصح به حكمي فصح التماثل‏

فما عنده إلا الذي هو عندنا *** فإن صح هذا القول أين التفاضل‏

بلى إنه عيني وما أنا عينه *** ولو إنني كفؤ لبان التقابل‏

[المصور من الناس من يذهب يخلق خلقا]

يدعى صاحب هذه الحضرة عبد المصور والمصور من الناس من يذهب يخلق خلقا كخلق الله وليس بخالق وهو خالق لأنه قال تَخْلُقُ من الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فسماه خالقا وما له سوى هيأة الطائر والهيئة صورته وكل صورة لها قبول ظهور الحياة الحسية فإن الله قد ذم وتوعد المصور لها لأنه لم يكمل نشأتها إذ من كمال نشأتها ظهور الحياة فيها للحس ولا قدرة له على ذلك بخلاف تصويره لما ليس له ظهور حياة حسية من نبات ومعدن وصورة فلك وأشكال مختلفة وليست الصورة سوى عين الشكل وليس التصوير سوى عين التشكل في الذهن‏

[ما معنى إن الله خلق آدم على صورته‏]

واعلم أن الله لما خلق آدم على صورته علمنا أن الصورة هنا في الضمير العائد على الله إنها صورة الاعتقاد في الله الذي يخلقه الإنسان في نفسه من نظره أو توهمه وتخيله فيقول هذا ربي فيعبده إذ جعل الله له قوة التصوير ولذلك خلقه جامعا حقائق العالم كله ففي أي صورة اعتقد ربه فعبده فما

خرج عن صورته التي هو عليها من حيث هو جامع حقائق العالم فلا بد أن يتصور فيه أعني في الحق إنسانيته على الكمال أو من إنسانيته ولو نزه ما عسى إن ينزه فإن غاية المنزه التحديد ومن حد خالقه فقد أقامه كنفسه في الحد ولذلك أطلق الله له على لسان‏

رسوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم اعبد الله كأنك تراه‏

فأدخل على الرؤية كاف التشبيه والتمثيل وقال له إن الله في قبلة المصلي وقال فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله ووجه الشي‏ء ذاته وحقيقته ففي أي صورة أقام الله عبده فهي موضع توليه ففيها وجه الله إن عقلت فقد أثبت الحق لك ما ينفيه عقلك بدليله والحق أحق أن يتبع فالإنسان ينشئ في نفسه صورة يعبدها فهو المصور وهو مخلوق منشا أنشأه الله عبدا يعبد ما ينشئه‏

فليس ينشئ عبد غير خالقه *** وليس ينشئه إلا الذي خلقه‏

فهو الذي أنشأ الأكوان أجمعها *** في مضغة كان ذاك النش‏ء أو علقة

فزاد في خلقه بكون خالقه *** له الغناء ولهذا فقره طبقه‏

مع الغناء فله النعتان قد جمعا *** بمثل هذا الذي قلناه قد سبقه‏

فللعبد المؤمن إقامة نش‏ء صور الأعمال التي كلفه الحق أن يقيم نشأتها على أتم الوجوه وأعطاه القوة على نفخ الروح في كل صورة ينشيها من عمله وهو الحضور والإخلاص فيها وما ذم الله عبدا يصور صورة لها روح منه ينفخه فيها بإذن ربه فتقوم عنه حية ناطقة مسبحة بحمد ربه وإنما ذم الله من يخلق صورة لها استعداد الحياة فلا يحييها إذ كان خالقها ولكن بما هي عليه من الاستعداد يحييها الحق دون هذا الذي أنشأها فبمثل هذا المصور تعلق الذم الإلهي ثم إن الحق رد كل صورة في العالم تظهر عن الأسباب المنشئة لها إلى نفسه في الخلق تعالى فقال في كل عامل والله خَلَقَكُمْ وما تَعْمَلُونَ فهو خالقك وخالق ما أضاف عمله إليك فأنت العامل لا العامل كما قال وما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ فنفى عين ما أثبت لك وأثبته لنفسه فقال ولكِنَّ الله رَمى‏ وما رمى إلا العبد فأعطاه اسمه وسماه به وبقي الكلام في أنه هل حلاه به كما سماه به أم لا فإنا لا نشك أن العبد رمى ولا نشك أن الله تعالى قال ولكِنَّ الله رَمى‏ وقد نفى الرمي عنه أولا فنفى عنه اسم العبودة وسماه باسمه إذ لا بد من مسمى وليس إلا وجود عين العبد لا من حيث هو عبد لكن من حيث هو عين فإن العبد لا يقبل اسم السيادة والعين كما تقبل العبودية تقبل السيادة فانتقل عنها الاسم الذي خلقت له وخلع عليها الاسم الذي يكون عنه التكوين وهو قوله تعالى ولكِنَّ الله رَمى‏ والحق لا يباهت خلقه فما يقول إلا ما هو الأمر عليه في نفسه فنفى ما يستحق النفي لعينه وأثبت ما يستحق الثبوت أيضا لنفسه فظهرت الحقائق في أماكنها على منازلها ما اختل شي‏ء منها في نفس الأمر وإن ظهر الاختلال بالنظر إلى قوم فذلك الاختلال لو لم يكن لكان في الوجود نقص لعدم حكم ذلك الاختلال فلا بد من كونه لأنه لا بد من كمال الوجود وهو قولنا في النقص إنه من كمال الوجود أن يكون فيه نقص وإن كان عينا سلبية ولكن حكمها واضح لمن عقل الأمور على ما هي عليه فحضرة التصوير هي آخر حضرة الخلق وليس وراءها حضرة للخلق جملة واحدة فهي المنتهى والعلم أولها والهوية هي المنعوتة بهذا كله أعني الهوية فابتدأ بقوله هو لأن الهوية لا بد منها ثم ختم بها في السلب والثبوت وهو قوله هو الله الذي لا إله إلا هو وابتدأ من الصفات بالعلم بالغيب والشهادة وختم بالمصور ولم يعين بعد ذلك اسما بعينه بل قال لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ ثم ذكر أن له يسبح ما في السَّماواتِ والْأَرْضِ ولم يقل وما في الأرض لأن كثيرا من الناس في الأرض لا يسبحون الله وممن يسبح الله منهم ما يسبحه في كل حال والأرض تسبحه في كل حال والسموات وما فيها وهم الملائكة والأرواح المفارقة وهي تسبحه كما قال يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ فراعى هنا من يدوم تسبيحه وهو الأرض كما راعى في موطن آخر من القرآن تسبيح من في الأرض وإن كان البعض من العالم فقال عز من قائل تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ (السَّبْعُ) والْأَرْضُ ومن فِيهِنَّ بجمع من يعقل ثم أكد ذلك بقوله وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وزاد في التأكيد بقوله ولكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فأتى بلفظة من ولم يأت بما وأتى في الحشر بما ولم يأت بمن فإن سيبويه يقول إن اسم ما يقع على كل شي‏ء

إلا أنه لم يعم الموجودات فوجلت قلوب من بقي منها ولم يقع له ذكر في التسبيح فجبر الله كسرها وأزال وجلها بقوله عقيب‏

هذا القول وإِنْ من شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وزاد في الثناء عليهم بجهل الناس تسبيحهم بقوله ولكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فكان هذا الجبر في مقابلة ذلك الانكسار الذي نالهم فتضاعف الطرب عندهم بذلك والفرح وما هو تضاعف على الحقيقة وإنما هو تعمير الموضع الذي ظهر الكسر فإنه أخبر أن كل شي‏ء يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ كما هو الأمر عليه في نفسه وسد خلل الانكسار بقوله لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ بحرف الاستدراك وهو قوله ولكن طمعا في أن ينفردوا دون من سواهم بهذا التسبيح الخاص فإن الناس إذا عرفوه سبحوا الله أيضا به فالمسبحون أبدا في إنشاء صور فهم المصورون الذين ينفخون في صورهم أرواحا وإنشاء الصور لا يتناهى دنيا ولا آخرة فالإنشاء متصل دائم وإن تناهت الدنيا والله يَقُولُ الْحَقَّ وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ‏


  الصفحة السابقة

المحتويات

الصفحة التالية  

البحث في نص الكتاب



يرجى ملاحظة أن بعض المحتويات تتم ترجمتها بشكل شبه تلقائي!